Culture Magazine Monday  05/03/2007 G Issue 189
نصوص
الأثنين 15 ,صفر 1428   العدد  189
 
قصة قصيرة
طقوس
العباس معافا

 

 

في لحظة وقوفي، لاحتْ مني التفاتة لجهة الزقاق، أناسُ قد التقوا في حلقة لا أدري علام، اتجهتُ إليهم في عجل، وكأنني قد وجدت ما عجزتُ عن إيجاده طوال اليوم، حاولتُ أن أحشر نفسي.. بلا جدوى، فجأة نظرتُ إلى الوراء، رجل مسنْ أشاهده لأول مرة في قريتنا، استطاع أن يلج بين الأجساد، بدوري قمت بتتبعه كظله، حتى أصبحت أمام المشهد وعن كثب، وقفت متفحصاً الوجوه، أراقبُ المشهد بغرائبية، ليس لأنه غريبُ في حدوثه، لكنّ الرجل المسن راح يخط في تلك اللحظة على صفحة الأرض وحول جسد المصروع دائرة، لم يقترب أحدهم من خط الدائرة، الجيمع في ثبات أمامه.

بعد قليل من ذلك قام المصروع من رقدته، كان فزعاً لدرجة جعلته يصرخ هارباً إلى لا اتجاه، في تلك اللحظات التي واكبت الصحوة اختفى الرجل المسن من بين الجميع، بتخبط تفحصت الاتجاهات التي لم تسعفني بأي دليل أو موجه لخطواته، لا أدري كيف مضيت بسرعة في زمن قياس من تفكيري إلى اتجاه، لم أزعم أن موجهاً حدا بي إلى اختياره، باعث خفي ووحيد جعلني أمضغ ذلك الاتجاه، بخطوات لا تحتفظ بأي اتزان مضيت، عيناي لا تفتآ عن خياطة كل ركن من أركان وجهتي، لم أشعر إلا وأنا خارج القرية، والتراب يبشرني بوقع خطى رطبة، تتبعتها أملاً أن تكون للرجل، عبرت أطراف القرية إلى أن تعمقت في ركن من أركان الوادي، ركن قصي امتلأ امتداده بشجر (السَّلم)، حتى أن رهبة مارستني في الخفاء، فكرت أن أعود للوراء لكن باعثي بات أقوى من أن يقاوم، في لحظة التفكير تلك لاحت لي (عشة) صغيرة تختفي بين أشجار (السَّلم)، أيقنت حينها أنني وصلت، وأن الباعث كان أقوى من حيرتي الرجيمة، لم ينتبه لي إلا وأنا أمامه ، تفاجأ بي، لن أقول إنه فزع مني، من يسكن مثل هذا المكان لا يعرفه الخوف، وقفت صامتاً، تفحصني، ولرغبة مني في اختصار الوقت أعدت عليه المشهد كاملاً، قلت له لحظتها: ما أريده منك هو سر تلك الدائرة التي خططتها على صفحة الأرض، وهل استبشر بك الجميع خيراً؟، لأنهم لم يتركوا لي فرجة أرى منها، في حين أنك وبمجرد مقدمك انفلق الجمع إلى فلقين كي تعبر وأنا في ظلك، بل أريدُ أن أفهم كيف أبدلت صخبهم صمتاً؟، والمحير في المشهد كله صحوة المصروع دون بأس.

فلت له ذلك وهو صامت في مكانه، لم يبد أي انفعال، صرحت بأن هذا هو الباعث الذي جعلني أبحث عنه في حين أني أتعقبه.

أدار وجهه عليّ كأنه لا يريد اقتراف الحديث معي، بل هو كذلك، لا أدري لم أراد تجاهلي حقاً؟ ما أعرفه جيداً أن انصرافه عني لن يبطل أياً من تساؤلاتي، بل هي قائمة ما دمت هنا ولم انصرف، شعر بذلك وكأنه يقرأ ما أفكر فيه، ليتني أدرك فيما يفكر؟.

كان يمارس أموراً وكأنه يريد أن يشعرني بالملل، دخل إلى (عُشته).. خرج، وأنا باق في مكان لم أتزحزح، كل ما أقوم به لا يعدو أكثر من تبديل ساقي التي أثبت ثقل جسدي عليها بأخرى، فاجأته بقولي: ألا تريد أن تخبرني؟، بل هل تحسب أني سأتحرك من هنا قبل ذلك؟.

خاطبني حينها قائلاً: أنا طبيب وقمت بعلاج المصروع فقط، هذا كل ما جرى، ليس سواه،.. قلت له: أتظنني أصدق ذلك، أن أموراً كثيرة جعلتني أتبعك، منها أنك لم تمسه أو تجسه أبداً، كل ما قمت به هو أن خططت دائرتك واختفيت، كيف إذن تدعي أنك طبيب؟، والأعمق من ذلك أنني كنت ألاحظ شفتيك حينها، كنت تنبس بكلام لم أفهمه، أيضاً أنت لم تتحرك إلا بعد أن قام المصروع، لأنني كنت أراك قبيل لحظة قيامه، بعدها لم أرك، وها أنت الآن أمامي.

سكت طويلاً ثم قال لي: كل ما قلته صحيح!! أنا لست طبيباً، لكني لن أقول لك شيئاً. مستعد أن أقول لك إذ أنت وعدتني أن تؤجل الأمر إلى غد، حينها سأخبرك بكل الأمر.

قلت له: أتريد أن تفر مني ومن أسئلتي؟

قال: أتظن أن مثلي يقوى على الانتقال من مكانه؟

قلت: وما الداعي إذن لعدم إخباري اليوم؟

قال: أتمنى ألا تسألني أكثر، لست موكلاً بالبوح بشيء، أسألك فقط أن تمهلني للغد.

قلت له: لكني أتوجس خيفة منك.

قال: لا تتوجس، عليك الذهاب الآن، ولقاؤنا في هذا الوقت هنا.

رضخت لإصراره على أن أعاود المجئ في الغد، بتُ تلك الليلة بي رغبة ملحة أن أطوي الوقت طياً..

في اليوم التالي.. في نفس الوقت توجهت للمكان ذاته، كان على هيئته، لكن الرجل غير موجود، انتظرته، طال انتظاري كثيراً، فكرت في أنه قد خان العهد بيننا، وأنه قد أضمر الرحيل بأسئلتي دون أجوبة، حين فقدت الأمل في عودته، بخيبتي آثرت الرجوع، بمجرد أن خطوت مبتعداً عن المكان، إذ بصوت ينادي باسمي، كنت أسمع الصوت لا أرى صاحبه،

قال لي: ها أنا عدت لكنك لا تراني، أردت أن أكون وفياً، لذا آثرت العودة، لسبب وحيد لمْ أخبرك بالأمس عما تريد، لكنني اليوم سأجيبك عما سألتني.

كنت واقفاً مكاني، أسمع الصوت أحاول أن أترصد اتجاهه ومصدره.

قال وكأنه أدرك ما أفكر فيه: لن تراني.. لن تراني أبداً، وما كنت عليه بالأمس ليس حقيقتي، ألا تريد الآن أجوبة لأسلتك؟

أحسست بالفزع حقاً، خفت كثيراً، لكني حاولت أن أملك أمري، فمن يحدثني اليوم كنت بقربه مجالساً بالأمس، قلت له: بل أريدها.

قال بصوت عميق: إن الرجل المصروع بالأمس كان يسكنه أخ لي، كان منفياً إلى جسد الرجل، نفثته القبيلة بسبب فعلة اقترفها، وقد اعتادت قبيلتنا على نفي المذنب إلى جسد أي إنسان يرغبه ويختاره بنفسه، وقد مات أخي في نفس اللحظة التي صرع فيها الرجل، وموته سبب صرعته، عندما أخبرت عن موت أخي، كان لا بد أن أجيء إليه، فقد تعارفت قبيلتنا أن الأخ الأكبر للمنفي هو من يقوم بما فعلته، في هيئتي تلك جئت، خططت دائرة لأن رجالاً من قبيلتي أرادوا أن يقيموا في نفس اللحظة طقوس موت أخي، ليس كل من ينفي في قبيلتنا يكرم، لكن من لا يثور على قرار القبيلة بالنفي يقابل بعد موته بالتكريم، أرادوا أن يحملوه من مكانه إلى أرضنا التي نحيا بها، لأنه عرف لدينا أن من يموت في منفاه يحمل إلى أرضه ليحيا ميتاً هناك، لذا آثرت أن أخط دائرة حول جسدهما، كي لا يكون الجمع المتجمهر عائقاً أمام طقوس القبيلة، موعزاً في أنفس الجمع من حركات شفاهي التي رأيتها أن الدائرة تحفظ المصروع من الأذى، وأن حاجته للهدوء أدعى، استمرت طقوسهم ما بين قيامي بخط الدائرة وبين قيام المصروع، بعد أن تأكدت من رحيل قبيلتي بميتهم وقيام المصروع بلا هدى آثرت وسأوثر الاختفاء.

السَّلم: شجر شوكي يعرف عنه النمو العشوائي والكثيف


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة