Culture Magazine Monday  25/06/2007 G Issue 204
أوراق
الأثنين 10 ,جمادى الثانية 1428   العدد  204
 
الكابتن
حصة العتيبي

 

 

كان كالنحلة الملونة أجنحتها برّاقة، لكن لسعتها قاتلة، يركض هنا وهناك، يحاول إبراز موهبته في إتقانه لعمله، كان جل همه أن يختم ببصمته على أية إنجازات ينهيها لكي يثبت لرب عمله انه في مستوى الثقة التي منحها إياه.

كان.. ولازال ينهي معاملاته مع الآخرين بقول (الله يحفظك يا ذوق يا رائع).. هذه الجملة باتت ملازمة له يعرفها عنه كل من تعامل معه وعرف حقيقته.. فباتوا لا يشعرون بمعناها لأنها بدون لون.. رائحتها كريهة.. كمنظر عنكبوت مخادع.. يفرز السم على ضحيته بملمس ناعم فلا يشعر إلا وقد توغل داخله.. يفتك به من دون أن يشعر.

هكذا تدور الأيام وتمنح أناسا قدرها وتلغي أحياناً أخرى بجرة قلم، أو نكسة خلق، أو حتى ابتسامة صفراء مكانة بعض أولئك الآخرين، لكن صاحبنا لم يكتفي بهذا، كان يعجبه كثيراً التشتت الذي يغلف به مهارته في الضحك على الذقون والتلون بألوان أخرى يحسبها الآخرون مهارة.

كان يجول هنا وهناك.. يترقب لحظة غفلة لا يشعر بها من حوله، كان يتسلق الأكتاف بمهارة الكابتن المتمكن من أساطير لعبته التي يرويها بذكاء على خارطة ملعبه هو حتى يصل إلى أعلى قمة في ذهن المتلقي ثم يقذف سمومه التي يرسلها للهدف بمهارة.

ذات يوم منحته الأيام صديقاً رقيقا في كل شيء حتى في غضبه، كان محط الأنظار، يعجبه من الدنيا بسيطها، ويمنعه من الركض خلفها ما ينغص عليه تقلبات الصعوبات فيها، فيتركها غير آسف عليها، فيلتقطها صاحبنا نيابة عنه، غير نادم على الفرص التي لم تكن له، بل ربما في بعض الأحيان تنحى عن الطريق لصاحبه الكابتن ليحصل على شيء لم يكن له... هكذا هي براعة المخادعين! وتستمر في الدوران الأيام.. حتى أن من كان يراقبها بدأ يشعر بالملل من الرتابة فيها إلى ان كانت تلك اللحظة التي تمنى الجميع فيها أنها لم تكن! بدعوة من صاحبنا الكابتن..كان هناك حضور.. وكان أيضا هناك صباح مميز للعيون التي حضرت للمكان الجميل.. كانت الخضرة والماء والوجه الحسن هي العلامة الفارقة في وجه الأيام، ودفاتر الذكرى التي ستبقى تسطر الأحداث داخلها دون تزييف أو خداع.

كان معظمهم مستعجل، كان مجملهم غير مقدر لتلك اللحظة التي ربما عبرت كالطيف على الجميع لكن لم يشعر بها سواهما.

جاءت تتهادى كأنها حمامه.. التقت أعينهما.. بدون مقدمات.. تشاورت الأرواح وتعاظمت في عيون العشق المواعيد، فكانت الإشارة، وكانت القلوب بريئة، والأنفس شفافة، وبطاقات العبور جاهزة.. دون سابق إنذار، أو حتى إشارة مرور مزعجة.

ترددت الخطوات كثيرا تزور مكان اللقاء الأول.. وتكاثرت الأشواق وهي تترجم المواعيد كأنها حلم... لا يريد أن يصحو من غفلته. هذا الحال لم يعجب الكابتن (فهو كان سبب التقاءهما.. ولابد ان يكون له نصيب مما يحدث بينهما) فأصبح يترقب لصاحبه، يود أن يخطف اللحظات منه ليفوز بها هو.. لكن الرفض من البداية كان معلناً من قبلها... فالقلوب لا تحتمل كثرة الساكنين.. إنما يتربع بداخلها ساكن واحد يستحقها! بدأت السماء تتلبد.. في أفق الكابتن الضيق المليء بالحقد الدفين.... رسم الخطة تلو الأخرى.. جاء بكذبة قصمت ظهر العشق وهو يحمل أحلام صاحبيه في محاولة منه للوصول إلى بر السعادة وأحضانها.. جعلتها هذه الكذبة تحتار هل تصدق أم تسكت وكأنها لم تسمع شيئا.. قال لها كابتن الكذبات والتخطيط لنزع فتيل الأمان منها بالحرف الواحد (صاحبك عاد لعشقه القديم وهما الآن مسافران بعيداً.. هناك في مكان التقاءهما الاول حيث اعتادا الذهاب إليه في كل عام احتفالا بقلبيهما..).. لم تصدق في البداية ما سمعته..شهقت وكأنها تحتضر.. وصمتت وكأنها ترتجي نهاية زوبعة.. اغرورقت سماؤها بالغيوم حينما جاء تأكيد كذبته بأن كل الخطوط مشغولة.. والهواتف مغلقه.. والطرق ملبدة بغبار الحزن الذي لم يرحم دمعها ولم يتعطف بفرصة للسؤال وجوابه، لتؤكد المصيبة التي ثارت من حولها دون سابق إنذار.. أو حتى تنكرها بجواب مقنع.

جاءت التأكيدات كلون الليل الذي يخنق الضوء في عيون الصبح الضرير.. فكانت سواداً على سواد.. على الأقل في عينيها المتعبة.

جاء كل ذلك.. وهي لم تكن تتوقع أن ما يجري حولها أكذوبة.. محاولة لنزع ما كان قد بدأ ينمو بداخلها من عاطفة جياشة قرأتها عيون الشوق قبل أن تقرأها عيون البشر.

انتهى مشوار العشق إلى هنا.. ارتحلت قوافله إلى غير رجعه في قلبها الجريح وكرامتها المهانة.. اغرورقت أحلامها بجرح كبير لن يندمل مهما كانت الأعذار مقنعة هنا... نال الكابتن مطلبه من هذا التحول الكبير لديها.. فصار يرسم خطة أخرى لجعل هدفه سهلاً لدى ضحيته التي ربما تعدت الأرقام بترتيبها غير المعروف في قائمة ضحاياه.. من الأنقياء والطيبين!

أصبحت الطرق لهذا الكابتن مفتوحة (على الأقل في تصوره هو.. وأمانيه).. لكن نفسها مشغولة بتضميد الجراح، تشعر بالقرف من مجرد سماعها لصوت هذا الكائن المتكبتن وهو يحدثها، أو حتى عندما يتظاهر بأنه الصديق الصدوق، لأن الصدق لا يستطيع أحد تمثيله، أو تأدية دور قريب من لونه، وشكله، كل الأدوار هنا باهتة، كل الألوان هنا واحدة، في عينيها هي.. أصبح كل شيء باهتاً، لأنها ترى الوجود بعين مجروحة وقلب دامي، فتحول كل شيء لديها إلى تأدية واجب تعبر به من خلال ابتسامة باهته لم يعرف أحد سببها حتى الآن.

كانت الأجواء في ذلك اليوم ملبدة، وجه حزين، وصوت بشع، وقرار لابد منه، لأن الابتعاد وأنت في حالة الاحتضار عن مكان الفاجعة هو أسلم الطرق لكي تحافظ على ما بقي داخلك من إنسانية تخشى عليها من الانهيار.. فالهروب في بعض المواقف شجاعة!!

جاء الرحيل قراراً سليماً من جانبها هي، لأن الوحل لا يحتمل سوى أبدان الجبناء، فكيف إن كان مليئا بأشباه الكابتن الجبان، الذي وأرى صدقه التراب، واضمحل تحت نوايا نفسه الخبيثة، هنا فقط لملمت شتات وقتها، وعبارات كانت قد أوردتها قصيده لم تكتمل.. ولن تكتمل أبداً.. رحلت غير آسفة على شيء.. سوى على نفسها النقية التي صدقت بياض أيام لبست سواد أصحابها، ممن يختبئون خلف أقنعة سوداء تشبه قلوبهم المريضة.

- الرياض


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة