Culture Magazine Monday  25/06/2007 G Issue 204
فضاءات
الأثنين 10 ,جمادى الثانية 1428   العدد  204
 

كلام على نظرية المؤامرة
د. مصلح النجار

 

 

قبل سنوات، دعتني إحدى الفضائيّات العربيّة إلى ندوة تلفزيونيّة حول (نظرية المؤامرة)، وكان ثمة ضيف على الهاتف، روائيّ مصريّ تقدّميّ مشهور، فتحدّثت عن المؤامرات التي حيكت ضدّ الثقافة الإسلاميّة، والثقافة العربيّة، والتراث، والشعر، واللغة العربيّة الفصيحة، ورسم الحرف العربيّ. وبينما أنا أبسط كلامي؛ قفز الروائيّ التقدّميّ وعارضني بشدّة، واتّهمني بالرجعيّة، وقال إنّ ابتلاءَ الأمّةِ كامنٌ في فكرِ أمثالي من المصابين بهاجس المؤامرة، وإنّه لا توجد مؤامرة ضدّ ما سبق كلّه، إلا في أذهاننا، فقلت له: إذا لم تكن هنالك مؤامرة، ونحن واهمون؛ فتلك مصيبة، وأمّا إذا كانت المؤامرة واقعاً، وأمثالك من الكتاب والمفكّرين التقدّميين لا يدركون وجودها؛ فالمصيبة أعظم.

وبعد هذه الحادثة بسنوات، كنت ألقي محاضرة لي في مؤتمر علمي تخصّصيّ في إحدى المدن العربية العزيزة، فطرحت أطروحة في السياق ذاته، فتصدّت لي أستاذة معروفة في إحدى الجامعات العربية العريقة، وقالت لي: إلى متى ستثقلون علينا بدعاوى الالتزام، يا بقايا التقدّميّين المنظّرين؟

والحقَّ أقول: لا الروائيّ كان مصيباً، ولا الأستاذة الجامعيّة كانت (مصيبة)! أنا لست رجعيّا بمفهومه، ولا تقدّميّا بمفهومها، أنا... أنا! أنا أكتب منطلقاً من منظومتي الفكريّة العربية الإسلامية، ومن تكويني الطبيعيّ. الغريب في الحادثتين السابقتين أن الأطروحة ذاتها كانت تضعني في أقصى اليمين تارة، وتضعني في أقصى اليسار تارة أخرى. وتابعت بحثي واستقصائي؛ فوجدت ركاماً هائلاً من المؤامرات، وشبهات المؤامرات، وأذيال المؤامرات. وليس مهمّا هنا أن نصنّف الحوادث، والأمور فيما هو مؤامرة، وما وقع من أصحابه، بحسن نيّة، أو برغبة تطويريّة، تحسينيّة.

المهمّ هو مدّ الأصابع نحو تلك الحوادث، والتفكير بها الآن، من منطلق بعدنا عن كثير منها، زمنيّا.. فليس توجيه التهم لأحد هو ما نرمي إليه أبداً.

العربيّة الفصيحة - هل هنالك مؤامرة؟

لم تسلم العربيّة من الطعن عليها، عبر العصور، فقد أسرف الشعوبيّون، منذ العصر العباسيّ، في توجيه سهامهم إليها، والتقليل من شأنها، والحطّ من قدرها. كما ألمحوا إلى قصورها في التعبير. وأمّا في العصر الحديث؛ فيقول محمود تيمور، في تشخيص دعوى الداعين ضدّ الفصيحة: (أكبر ما يعوق اللغة فيما يقولون أنّها لغة كتابة، لا لغة كلام. ولو كانت لغة كلام لعاشت في السوق والبيت، ولنمتْ من تلقاء نفسها، ولاشتقّت ألفاظها من طبيعتها، دون اللجوء إلى عوامل مصنوعة). ولعلّ جلّ ما تعرّض إليه المتعرّضون هو هجر الفصيحة، والازدواج الذي يشكو منه المتكلّم العربيّ بين فصيحة، وعاميّة، أو محكيّة، وقصور رسم الحروف والحركات في العربيّة، وإشكالية الإعراب في الفصيحة.

ومكمن الخطر في أكثر تلك الدعوات أنّها تنال من التراث العربيّ المكتوب عبر قرون، بل إنّها تفضي في المحصّلة إلى خطر كبير على القرآن الكريم، من حيث إن ذلك يقود في النهاية، والعياذ بالله، إلى ترجمة معاني القرآن إلى اللهجات (التي ستصبح لغات، كما يرى الداعون إليها)، وذلك شبيه بما حصل للكتاب المقدّس، حين ترجم إلى اللغات الأوروبية، التي ورثت اللاتينية. وظهرت دعوات كثيرة للتقريب بين حال العربية الفصيحة، وحال اللغة اللاتينية التي حلّت محلّها بناتُها الأوروبيات الحديثات.

المضحك في الدعاوى التي طرحتْ بهذا الصدد جميعها، أنّها كانت تُطْرَح باللغة العربية الفصيحة، وبالحرف العربيّ لا اللاتينيّ، ولا المعدّل. أوَلم يكن أولى بهؤلاء الداعين أن يكتبوا دعوتهم إلى العاميّة بالعاميّة، ودعوتهم إلى الحرف اللاتينيّ بالحرف اللاتينيّ، ناهيك عن الدعوات إلى الأمرين معا؟ وحدّث ولا حرج!

لقد أشار المستشرق جب في كتابه (إلى أين يتّجه الإسلام؟) عند كلامه على الوحدة الإسلاميّة إلى أن من أهم مظاهر هذه الوحدة الحروفَ العربية التي تستعمل في العالم الإسلاميّ كله، واللغة العربية هي لغة هذا العالم الإسلامي الوحيدة. ويؤيّد جاك بيرك ذلك الرأي بقوله: (لقد خاضت الثقافة العربية معركة العصور، وخرجت منها ظافرة بفضل اللغة الفصيحة).

إنّ أهميّة اللغة الفصيحة هي ارتباطها بالقرآن الكريم، فهو يتربّع على عرش أعلى مستويات الفصيحة، وأرفع مراتبها، وهي تلك التي اصطلح على تسميتها باسم (الفصحى)، أي العليا في الفصاحة، والغالبة حين يقارن غيرها بها في صفة الفصاحة.

لقد خاضت العربيّة وأهلها، قبل دعوات التغريب، معركة التتريك، ولكنّ هذه المعركة أسفرت عن خروج العربيّة ظافرة. بل إنّ السحر انقلب على الساحر، ووجدنا التركيّة، منذ نهايات عشرينيّات القرن العشرين، تتغيّر كتابتها، على يدي أتاتورك، إلى الحروف اللاتينيّة، وقد رافق ذلك امّحاء لثقافةٍ، ولتراثٍ من المؤلّفات المرسومة بالحرف العربيّ.

وتحوّلت العطلة في تركيا من يوم الجمعة إلى الأحد، وأُلبس الناس القبّعات الإفرنجية، وصارت الدولة عَلمانيّة. ولذلك وجدنا المستشرق الألماني كَمْفاير يعلّق على تحوّل الكتابة التركية إلى الحرف اللاتينيّ، فيقول: إن تركيّا لم تعد بلدا إسلاميّا، إذ لم يعد الدين يدرّس في مدارسها. ويعطف على ذلك: إنّ قراءة القرآن العربيّ وكتب الدين الإسلاميّ صارت الآن محالةً، بسبب حلول الحرف اللاتينيّ محلّ العربيّ.

وليس بعيدا عن ذلك ما حصل في جزيرة مالطا، إذ أدخل الطليان على عاميّة المالطيين كلمات كثيرة من الطليانية، ثمّ تمّم الإنجليز ذلك بفرض الحرف اللاتينيّ، فاتّسعت الهوّة بين اللهجة المالطية العربيّة، واللغة العربيّة، وتولّدت لغة مالطيّة، مقطوعة عن أصلها.

عمان


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة