Culture Magazine Monday  25/06/2007 G Issue 204
فضاءات
الأثنين 10 ,جمادى الثانية 1428   العدد  204
 

القصيبي في مواسم الأحزان «1-2»
إبراهيم مضواح الألمعي *

 

 

في آنيةٍ أنيقةٍ، مشغولةٍ بالبساطة والجمال، يسكبُ لنا القصيبي لغةً صادقة، تشفُّ -كالماء - عما وراءها، وبظمأ السائرين في دروب الحياة، وتوجُّس المنتظرين مواسمَها، نشربها، فنجد لها مذاق العسل، حتى إذا تمكنت من قلوبنا، فإذا هي مشبعةٌ بالحزنِ العميق، الذي يملأ الشرايين، فيوقظ في نفوسنا كلَّ المواجع، وقد احتواها وجعٌ جديد، ربما غفلنا عنه بعض الوقت، وجعُ المستقبل الذي يَمْثُلُ أمامنا شبحاً من الفراق، والوداع، وإذا الذين حولنا من الأحباب، يقفون في طابور طويل، لنودِّعَهم أو نودِّع بعضَهم، أو يودِّعونا، أو يودِّعنا بعضُهم..

يقفُ القصيبي على قمة سنواته الخمس والستين، تكسو سفوحَها الذكريات السعيدة، والحزينة، ويطلُّ بنا على مهامهَ عمرٍ مليء بالأحزان، التي تعتَّقت في الذاكرة، وترسَّبت في الأعماق، وفاضت على كلماته وتأملاته، وأشعاره، المليئة بلحظات الوداع، ليس على أبواب الوزارات والسفارات والمطارات، بل أمام شواهد القبور..

دفعةً واحدةً يرشُّ القصيبي في وجوهِنا كلَّ أحزانه، بعد أن كانت نفثاتٍ، تضمنتها مراثيه، لأحبابه، ولسنواتِ عمره المتصرِّم، بدأت منذ قوله يرثي، أحمد ابن أخته، سنة 1958م ولمّا يبلغ العشرين بعد:

نموتُ فيا فجرُ لا تبتسمْ

ويا أمسيات الصبا أقفري

نموتُ على الأكؤسِ المترعات

ونرحلُ عنها ولم نسكرِ

لم تتحقق نبوءة القصيبي المبكرة، فقد عاش خمسين سنة، بعد قوله هذا، وإن كان يلوح له من وراء الأفق شفق المغيب، منذ وقت مبكر، حين وشى بدخيلةِ نفسه المتوجِّسةِ، ولَمَّا يزل في مطلع عشرينياته:

الشعراتُ السودُ في مفرقي

تحجبُ عنكِ الخافق الأشيبا

والشمسُ في الأفقِ ولكنني

ألمحُ خلفَ المشرقِ المغربا

نضجٌ مبكِّر، وقلق ولات أوان القلق، كان يواري حزنه الدفين خلف أقنعة الشباب، والمسؤولية، والطموح، والتجلد، والتجربة المديدة، التي أنجبت قناعاً من الشعور بألا جدوى من الشكوى، وتمضي السنوات وهو يرقب مواسم للحزن تكفلت بها الحياة، فشكا زمناً (صدمة الأربعين) وأنشدها أشجى شكاواه:

وها أنذا أمام الأربعين

يكادُ يؤودُني حملُ السنينِ

* * *

أطالعُ في المودِّع من شبابي

كما نظرَ الغريقُ إلى السفينِ

وأرتقبُ الخبيءَ من الأماسي

بذُعرِ الطفلِ من غَدِهِ الخؤون

وتملأ الأربعون نفس الشاعر، وحشةً، وأسىً على أيام الشباب:

والأربعونَ عويلٌ مِلءُ أوردتي

وفي شفاهي يبكي الصيفَ واللبنا

***

مات الصبيُّ الذي قد كان يسكنني

وكنتُ أسكنُه والكائناتُ لنا

ويعيش همَّ حصار الأربعين:

يا دميتي! حاصرتني الأربعون مُدىً

مجنونةً وحراباً أدمت العُمُرا

وتأخذه الأربعون إلى عالمها، الساكن، المتوجِّس، ويظن أنها غاية مشتكاه، فلا يفجعه إلا الخمسون، تزحفُ عليه بكلكلها، فتنسيه بسنواتها الثقيلة، همَّ الأربعين، فإذا هو يبكي الأربعين مع شبابه الآفل:

أو ما أنبأوكِ قبلَ لقانا

أنني في أصابعِ الخمسينا؟!

تأخذ الرُوحَ من عروقيَ .. حيناً

وتردُّ العروقَ والروحَ حينا

ترسلُ الشيبَ عبر شَعريَ.. لصاً

يتوقَى، شأن اللصوصِ، كمينا

قطفَ الأسودَ النضيرَ.. شِمالاً

وتمشَّى يمحو السوادَ .. يمينا

والخمسون تفعل فوق ذلك:

خمسون صبَّتْ لكَ الأقداحَ مترعةً

ونادمتْكَ فأنتَ الرِيُّ والشَبَعُ

* * *

خمسونَ تحملُ جرحَ الناسِ يا رجلاً

جراحُه من عذابِ الكونِ ترتضعُ

* * *

خمسون .. دَبَّتْ إلى الفودين فاشتعلا

وا حرقة الرأس فيه الشيبُ والصَّلُعُ!

وتستمر شكوى الخمسين:

أيرجعُ الصيفُ.. والفودان من لهبٍ

والقلبُ صمتُ رمادٍ ودَّع الضرما؟

أيرجعُ الصيفُ.. والخمسون مطبقةٌ

عليَّ لا رحمةً أبدتْ ولا ندما؟

هذا فعلُ الخمسين، فماذا يقول شاعرنا وقد حلَّتْ الستون بقلبه الرهيف، وتوجُّسِه القديم، وقلقه الذي لا ينتهي، فتزجره نفسُه عن صبوات الشباب، وتذكِّرُه بأنه ولجَ مرحلةً جديدةً، ومن قصيدته ( في عامي الستين) قولُه:

يا أيها الكهلُ أزعجتَ الورى! أفلا

أغمضتَ جفنَكَ من حينٍ إلى حينِ؟

يا أيها الكهلُ.. أيامُ الصِبا هربتْ

هل كنتَ تحسبُها بعضَ المساجينِ؟

يا أيها الكهلُ في المرآةِ لو نظرتْ

عيناكَ أبصرتْ إخفاقَ المعاجينِ

يا أيها الكهلُ!.. لا تحلمْ بفاتنةٍ

حلمُ الصحاري بحقلٍ من رياحينِ

لقد تراكمت هذه المرارات عبر السنين، حتى إذا بلغت به خمساً وستين سنة، ما كان لينتظر السبعين، فكل سنة، مفصلٌ في العمر، يَئنُّ له قلبُ الشاعر الرهيف، وما جبن شاعرنا من الموت، فهو آتٍ لا محالة بهذا الرضا عشت ما عشت. وبهذا الرضا تموتُ حين تموت: (ص9)، ولكنه يرثي حياةً مكتظةً بالحياة، مليئةً بالذكريات، بالناس، بالمعارف، بالتجارب والأفكار، فلقد عاش شاعرنا الحياة كما لم يعشها كثيرٌ، من أولئك الذين أخذتهم المسؤولية، أو أخذهم الأدب، أو العائلة، أو المال، أو الوظيفة، حتى الثمالة، فعاشوا حياة الجمل في المعصرة، يدور ويدور ولا ينتهي دورانه إلا بنهاية حياته، أما القصيبي فقد ركض في اتجاهات متعددة، وأحسبه، أصاب في كل دربٍ سلكه نجاحاً لم يُحَقِقْهُ كثيرٌ من السائرين المنقطعين لتلك الدروب.. ترى ما الذي دفع القصيبي إلى هذه الصرخة الحزينة، أهي السنوات الخمس والستون، أم أنَّهُ تساقطُ النجومِ من سمائه تباعاً:

خمسٌ وستون.. في أجفانِ أعصارِ

أما سئمتَ ارتحالاً أيها الساري؟

أما مللتَ من الأسفارِ.. ما هدأتْ

إلا وألقتكَ في وعثاء أسفارِ؟

أما تعبتَ من الأعداءِ.. ما برحوا

يحاورونك بالكبريتِ والنارِ

والصحبُ؟ أينَ رفاقُ العمرِ؟ هل بقيتْ

سوى ثمالةِ أيامٍ وتذكارِ؟

لم يكتفِ القصيبي عند الخامسة والستين بقصيدة، تأبينية للعمر الذي تولى، كما عودنا، في الأربعين والخمسين والستين، بل زاد فوق ذلكم، كتابَ (المواسم) الذي جئت اليوم أحذركم من قراءته، لأن كاتبه يدس الحزن في العسل المُشتهى، منذ السطر الأول، بل الكلمة الأولى: (تسكنك هواجس الرحيل. تشعر أن المسافة بينك وبين نهاية الطريق تهرب بسرعة غير مألوفة، تشكو أشياء لم تكن تشكو منها..) (ص 7).

في كتاب (المواسم) ينجح القصيبي في الاستعاضة عن حديث (الأنا) بحديث (الأنت) وبدلاً من أن يتحدث عن نفسه، على ما في الحديث عن النفس من محاذير، اختار أن يتحدَّث إلى نفسه، ومن يلومه عندما يتحدث إلى نفسه؟ ومن يتهمه بالنرجسية؟ له أن يقول لنفسه ما يشاء، وما ذنبه إن سمعنا أو قرأنا حديثه إلى نفسه، أو حديث نفسه إليه؟! فالذنْبُ ذنْبُ الذين أرهفوا إلى حديث نفسه أسماعَهم، حتى أُشْرِبَتْهُ قلوبُهم.. تتلقى نفسه حديثه إليها، أو إن شئت يتلقى حديثها إليه، تخاطبه بلغة الراوي الذي يعرف كلَّ شيء، يتلقاه بتسليم، فلا نجد اعتراضاً، حتى لنشكَّ أنَّهُ ونفسَهُ شيءٌ واحد، برغم ضمير المخاطب.. أنت.. (وأنت في الخامسة والستين، تحملُ ألفَ جرح، بعضها ينزف، وبعضها جفَّ، وبعضها يتكوَّن، وتشعر بإرهاقٍ يملأُ جسدك وروحك..) (ص20).

يتنقل الكاتب في حديث نفسه بين مراحل متعدّّدة من حياته، فهل كان موت شقيقته الغالية (حياة) الشرارةَ التي أوقدت كلَّ هذا الضرام، أم موت (عادل) أم موت (مصطفى) أم أنه ذلكم كلُّه أيقظ هاجساً قديماً، قديماً.. في حين كان آيلاً للبكاء بفعل السنين الخمس والستين، وكثرة الموَدَّعين من الإخوان والأخوات والأصدقاء، والأحباب: (بدأ الأسبوع ولك شقيقة وشقيق وانتهى الأسبوع وأنت بلا شقيقة ولا شقيق) (ص20)، شعور مؤلم ينتابك وأنت ترى نجوم سمائك تتساقط من حولك، بينما تبقى منفرداً معلقاً غريباً..

- أبها


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة