Culture Magazine Monday  25/06/2007 G Issue 204
فضاءات
الأثنين 10 ,جمادى الثانية 1428   العدد  204
 

ما لم أقلْهُ حياً في الأدب والسياسة والثقافة
ومضات
عبد السلام العجيلي

 

 

قال له صاحبه: حين يرى الفرنسيّ صديقه مستغرقاً في تفكيره مثلك، يقول له: (أشتري ما تفكّر به بخمسة فرنكات). أمّا أنا فأشتريه منك بخمس ليرات. ما الذي تفكّر به في هذه اللحظة، ويجعلك غير منتبه إلى ما أحدّثك به؟

هزّ هو رأسه وقال وعلى شفتيه ابتسامة ضئيلة: أفكّر بجواب على سؤال دأبت في الزمن الأخير على إلقائه على نفسي بين الحين والحين.

قال صاحبه: أي سؤال هذا؟

قال هو: كنت أتساءل، كيف يمكن للمرء أن يرحل عن هذه الدنيا بهدوء، دون أن يتألّم أو أن ينزعج، ودون أن يؤلم الآخرين أو يزعجهم؟

قال الصاحب: يا له من تساؤل. أتعني به نفسك؟ لا تقل لي إنّك مللت من الحياة ورحت تفكّر بمغادرتها بتصميم وفي طواعية.

اتسعت ابتسامته هو على شفتيه وقال: وما يمنع أن يكون الأمر كذلك؟

قال صاحبه: أنت تثيرني. ما الذي تشكو منه في حياتك؟ نحن نغبطك، بل نحسدك، على أمور كثيرة تتصف بها أو تتمتّع بها في هذه الحياة: وفرة في ما تملك، وتوفيق في ما تعمل، وشهرة بين الناس، ومحبّة لك من رجالهم ونسائهم. صحّتك، ما شاء الله، وهي الأهم فيما بلغته من العمر، لا يتمنّى خيراً منها من هم في سنّ أبنائك. فما الذي يدعوك إلى أن تلقي على نفسك مثل هذه الأسئلة؟

انطلقت من صدره هو تنهيدة خفيفة قبل أن يقول: رحم الله أبا نواس وهو القائل:

يا ويح أهلي، أبلى بين أعينهم

على الفراش، ولا يدرون ما دائي

قال صاحبه: كنت تثيرني، والآن أصبحت تخيفني. هل تشكو من داء عضال في جسمك ونحن لا نعرفه؟

عادت الابتسامة إلى شفتيه هو، وقال: لو أنشدتك البيت الذي يسبق هذا البيت في القصيدة لما خفت يا صديقي. قبله يقول أبو نواس موجّهاً الكلام إلى محبوبه:

لو كان زهدك في الدنيا كزهدك في وصلي

مشيتِ بلا شكّ على الماءِ

قال صاحبه: الآن طمأنتني. داؤك إذن داء حب. داء روح لا جسد. هذا أدعى إلى أن تتمسّك بالحياة وأن لا تملّ منها. أما قال واحد من أصحابك الشعراء:

إذا أنت لم تعشق، ولم تدر ما الهوى

فكن حجراً من يابس الصخر جلمدا؟

قال هو: لا أدري إذا كنت قادراً يا صديقي على أن تفهمني. ولكنّي أعرف أنّ سكّان إحدى جزر الباسفيك، إذا بلغ واحد منهم ما بلغته أنا صديقك من العمر يحملونه، حتّى إذا لم يشك شيئاً في جسده، في قارب يوقرونه طعاماً وشراباً، ويسيرون به حتّى إذا بلغوا وسط المحيط، تركوه هناك وحيداً وعادوا من دونه إلى جزيرتهم. ما أجمل ما يفعل أولئك السكّان!... أتدري أنّ رحلتي القادمة ستكون إلى أرخبيل من الجزر في المحيط الهادي، أعني الباسفيك؟

قال صاحبه: أراك عدت إلى إخافتي، أو إلى إثارتي. أرجوك احتفظ لنفسك، ولنا، بنفسك. إذا كنت أنت زاهد في الدنيا فإنّنا بحاجة إليك فيها. صدّقني. واسمح لي أن أتركك إلى موعد حان وقته. باي باي يا صديقي.

وتركه صاحبه في مجلسه، معيداً إيّاه في ذلك المجلس إلى تساؤلاته وخواطره وأفكاره.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة