Culture Magazine Monday  25/06/2007 G Issue 204
سرد
الأثنين 10 ,جمادى الثانية 1428   العدد  204
 
قصص قصيرة
حسين أبو السباع*

 

 

(1)

امرأة وثلاث صور

جاوزت الباب، ودلفت من الممر العلوي لحجرتها لترى من دون قصد منها مرآتها القديمة، وصورتها المعلقة بجوار المرآة.. للحظة جذبتها المقارنة العاجلة بين الصورة المليئة بالحيوية والنضارة، وصورتها في المرآة.. مررت أصابعها برفق تحت عينيها متحسسة تجاعيد زمان ولى وانقضى، رفعت يديها لتنزل البرواز من فوق المسمار المثبت بعناية في الحائط، وضعته أمامها برفق، تحسست صورتها في البرواز بأصابعها اليمنى.. عادت إليها مشاعرها القديمة كوميض برق، إنها الفتاة المليئة بالحيوية، لا تكاد كلتا قدميها تلمسان الأرض رغبة منها في الطيران والتحليق بعيداً عن أي واقع يبعدها عن أحلامها الغضة، ورغبة أخرى في اجتياز الحواجز والسدود وأبعد المسافات.. تذكرت تفاصيل كثيرة مرت بسرعة شديدة جداً.. أيام المدرسة وضفائرها التي كانت تصل بالكاد إلى كتفيها، وسنوات أخرى في الصبا وأحلام الفتيات الصغار في عودة الأب من عمله بالحلوى واللعب معه حتى التعب، وسرعان ما مرت الأيام لتصبح فتاة شعرها ينسدل على كتفيها.. لتصبح في البرواز صورة جميلة لا تغيرها السنوات.. وتتخذ صيرورة الملامح خارج البرواز مساراً مختلفاً..

دبت فيها مشاعر قلقة وتحسست تجاعيدها بأصابعها اليسرى، مررت نفس الأصابع في شعرها الناعم كراغبة في حساب سنوات عمرها المعدودة بكم الشعر الأبيض الغزير الذي اختلط ببقايا الشعر الأسود موضحاً شسوع المسافات بين الأبيض والأسود.. لا تزال تمرر أصابعها اليمنى فوق الصورة وشعرها المنسدل على كتفيها.. وسواده الذي كان الجميع يقول لها إن الليل يغار منه.

لا يزال الباب مفتوحاً.. لكن خلفها.. رأت الباب في المرآة، وصورة طبق الأصل للصورة المعلقة في البرواز بجوار مرآتها.. صاحبة الصورة هذه المرة نادتها: ماما حضرتك هنا وأنا أبحث عنك؟! نظرت سريعاً لصورتها في البرواز وصورة الابنة، وصورتها في المرآة، فاستدارت لترى البنت الجميلة واقفة على عتبة باب الحجرة، ويفطر ثغرها عن ابتسامة متسائلة.

(2)

ثنايا أنوثة!!

في المساء وضعت مساحيقها وارتدت قميص نومها وتعطرت، وعطرت المكان بأكمله، انتظاراً للزوج الغائب خارج البيت في العمل، والأصدقاء الذين يملأون وقته، والكمبيوتر الذي يجلس عليه لساعات طويلة، دقت الساعة الثانية عشرة مساءً، ولم يأت، تلتها الواحدة، الثانية، لم يأت حتى الآن، مر الليل كله كساعات كسيحة، لم يأت، فكرت في الصباح، لماذا لم يأت، ارتدت ملابسها المتناسقة وخرجت إلى عملها وكأن شيئاً لم يحدث تماماً، أتمت عملها الروتيني، عادت أدراجها إلى البيت حاملة أفكاراً متداخلة، بين الوهم والحقيقة، أعدت شايها المعتاد بالنعناع، بعد الفراغ من غسل الصحون وترتيب المنزل، تكورت في زاوية من حجرتها، فكرت، اعتدلت من تكورها، وقررت أن تعيد تعطير الحجرة بالعطر ذاته، أسدلت الستائر وضعت مساحيقها المعتادة، وارتدت قميص نومها، انتظاراً للزوج الغائب، دقت الساعة الثانية عشرة مساءً، ولم يأت، أدارت الكمبيوتر واستمعت إلى رجعت الشتوية لفيروز، صوتها يملأ الفراغ دفئاً، انتهت الأغنية، أعادت سماع أغنية أخرى من زمان أنا شادي غنينا سوا، قلبت في رأسها عن شادي وجدته في مؤخرة تفكيرها الطفولي، طفلاً في عمرها رأته وتحدثا سوياً، ونشأت بينهما مشاعر مراهقة تلاشت كزبد البحر، وحتى الآن لم يأت الزوج الغائب، أغلقت الكمبيوتر، أطفأت النور، عادت إلى سريرها، تداخلت ذكرياتها، تذكرت حضورها ليالي أفراح صديقاتها، وتذكرت بداية بروز أنوثتها، تحسست مواضع الضعف في حياتها، تداخلت مشاعرها، تلاشى كل شيء وتلاشت هي الأخرى مع غمضة عينيها ونامت حتى الصباح.. ذهبت إلى عملها كعادتها، لم تبد عليها ملامح الانشغال، بدت واثقة، نغمات صوت فيروز لا تزال في أذنيها، تدندن في نفسها، لم يكد يسمعها أحد، ابتسمت ابتسامة ساخرة، قلبت الجريدة، قرأت أخبار المجتمع وجدت إحدى صديقاتها قد تزوجت، فرحت، ابتسمت، تذكرت الزوج الغائب، لا بد أن يأتي اليوم، أو على الأكثر غداً، عادت منزلها، صعدت الدرج، أقفلت غرفتها، نظرت إلى مرآتها المستديرة، قالت في نفسها طالما أن صديقتي قد تزوجت إذن لا بد أن يأتي زوجي أنا الأخرى، سالت من عينيها دموع حارة، قالت بصوت مسموع أمام مرآتها متساءلة ويدها تعبث بشعرها المنسدل على كتفيها: لماذا لم يأت حتى الآن، إنني انتظره كل مساء، أعطر المكان، أعطر نفسي، أنا جميلة، لماذا إذن لم يأت، سأنتظر.. مرة أخرى ارتدت قميص نومها، وتعطرت، وعطرت المكان انتظاراً للزوج الغائب طوال عمرها الفائت منذ أن بلغ سن الإدراك لا يزال غائباً، تنتظره، تقول في نفسها لقد جاء لأخريات غيري مبكراً، لماذا لم يأت إلى الآن، الدفء يلف مشاعري، وأخشى البرودة، أخشى البرودة، أخشى من لقب عانس...!!! فالزوج الغائب حتى الآن لم يأت.

(3)

هكذا اختارت حياتها!

عبثية.. هكذا اختارت حياتها أن تكون، من دون هدف تعيش لأجله، إن هي أحسنت فلنفسها، وإن أساءت فلن تسيء إلى أحد غير ذاتها المرهقة من عذابات السنوات الخوالي التي عاشتها وحيدة، بينما هي بين ذراعي شخص آخر كانت بينهما علاقات كثيرة لم تكن تدرك أن هذه العلاقات المتشابهة مع غيرها في نهاياتها الفاشلة ستثمر هذه الثمرة، ثمرتها كانت ذكرى لا تكاد تخمد نارها كلما تذكرت ذلك الشخص الذي كانت تراه جيئة وذهاباً، وتحسب أن عينيها قد اكتحلتا بصورته بحيث لن ترى شخصاً آخر غيره يوماً من الأيام، وأن هذا الحب الجارف في تيار صدرها الممشوق سيطغى على كل الأحداث الحياتية حتى اتفقا على ألا يتفقا، ونفذا ما اتفقا عليه، قال لها إن الطريق مختلف ويجب عدم المضي في هذا الاتجاه الذي يأخذ كلاً منهما نحو الطريق الخطأ، تذكرت حياتها معه، كانت منذ سنوات، إلى أن افترقا بلا عودة.

عبثية هي الحياة التي تحياها وارتضتها ليومها وأمسها وغدها الذي لم تحيه.. ركبت القطار لتسافر إلى مكان من الأمكنة التي تألفها هذه النفس المحبة في الماضي، العبثية في الحاضر. انطلق القطار بأقصى سرعته، ليطوي الأرض، ويطوي العمر، ويطوي في سجل الذكريات سجلاً كانت تحفظه بين ضلوعها نزلت من القطار في المكان الذي حددته سلفاً سارت بظهر فيه انحناءة بسيطة من أثر الانكفاء في العمل. تسير تنظر إلى الأرض كأنها تعد خطواتها إلى حيث لا تعلم الوجهة التي حددتها من قبل، يبدو أنها غيرت رأيها في المكان، قبل أن يسير القطار، جرت نحوه حاولت الركوب، لكنه كان قد جرى بسرعة بحيث لم تستطع أن تلمسه. وقفت برهة تفكر: هل تذهب إلى المكان الذي كانت قد قررت الذهاب إليه، ولم لا؟ فالوقت محدد، والمكان محدد، وكل شيء محدد إلا هي لم تكن محددة الملامح، ذهنها شارد في ذلك الرجل الذي فجأة وجدته أمامها على الرصيف المقابل للقطار، يجر طفليه في يديه، ويحمل أوزاره على كتفيه المنحنيتين قليلاً. لم تصدق ما ترى حاولت التدقيق في ملامحه التي كانت قد تغيرت هي الأخرى، تبدو مرهقة باحثة عن شيء مفقود ضائع لم تعبأ كثيراً بهذا الشخص الآخر الذي تراه، فقد كان من تحب في الماضي يحمل صفات غير التي تراها، لم يكن منحنياً للسنوات التي تحاول جاهدة أن تكفأ أعين البشر وتجبرهم على النظر إلى الأرض، لم يكن هو ذلك الشخص الذي أحبته في الماضي.

قررت الذهاب إلى وجهتها، وقفت أمام الشاطئ لترى الأمواج الآتية من أعماق البحر، لتجلس قليلاً على الرمال. تذكرت سنواتها الخوالي، وشبابها المنصرم، وحبيبها الذي رأته منذ لحظات، وكأنه يبحث عنها، لكنه تغير تماماً عما كانت تعرفه، انطلقت تعدو بخطوات ضعيفة نحو محطة القطار لتنتظر القطار العائد إلى مكانها الذي ألفته، وألفها جاء القطار، ركبت بسرعة، عادت أدراجها مرة أخرى، لتكون عبثية، هكذا اختارت حياتها أن تكون..!!

aboelseba2@yahoo.com


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة