Culture Magazine Monday  29/10/2007 G Issue 220
فضاءات
الأثنين 18 ,شوال 1428   العدد  220
 

بانوراما
قوى الكلمة الطاعنة
عبدالله الجفري

 

 

ذات نهار.. رأيت الشمس صفراء.. رأيت السحب تفرض وجودها، ولم أكن أتوقع - كإنسان - في تلك اللحظة: أن يهطل المطر، فما نفكر فيه باستغراقنا الذاتي وبشهواتنا وبشراهتنا المادية.. هو لا أكثر من شمس صفراء، وما نفعله بعد ذلك الاستغراق هو لا أكثر من سحب لن يأتي في إثرها المطر.. كأنَّ (لا شيء) أصبح يدل على (شيء آخر)!

-ولا حتى هذه العبارات كانت تدل على معنى محدد، ولكنها مجموعة حروف فقدت ميناءها.. بعثرتها حيرة الرؤية في كثير من تصرفات الناس نحو بعضهم البعض، وقتَّمتها ضبابية بعض الأفعال التي نمارسها وقد تجردت من قيم وخلق، ومن انتماء لنزاهة الوعي.

-إننا بتنا مثل أولئك البعض: يبطئ فهمنا لأبعاد الأزمنة، وتنشرخ عواطفنا بمشرط الشهوة والشراهة والاستغراق في الذات.

-ساخن.. ساخن: عقل أي إنسان يعيش هذا الزمان، لأن ما يفكر فيه يتغرب به عن مضمون الأسرة الإنسانية، ويأخذه إلى قلق النفس المبددة في وحشة الروح واستغوال المادة.

-إن رحلة إنسان هذا الزمان: تبدأ من انفعالاته، وعقله ساخن بمقدار تلك الانفعالات.. وليت الناس يتوقفون عن الضحك الذي لا أصداء له في القلوب، فهو ضحك فاسد مليء بالأصداف والصدأ.

-حتى العشق بارد.. لأنه تحول إلى حافز يخضع للمتناقضات في حياة إنسان هذا الزمان، فهو عشق (معلَّب) نفتحه في الليل إذا ما ترددت الأصداء المتناقضة في داخل النفس وخارجها، ونقفل عليه في النهار لنجري وراء الوراء.. ذلك الذي يحدد: مستوى معيشتنا، ونسبة الترف في استخداماتنا المادية، ويفضح اليوم تكاثر (المحتاجين) بحق، الصامتين دون إلحاف، بينما يزداد في كل يوم: تفريغ وجدان الناس من العواصف والطيبة، وتجف عقولهم من فكرة الخير والتآلف مع الآخرين!

-ولقد حاولت أن أصغي، فطغى الضجيج على الانصات.. وحاولت أن أرى، فازدحمت آلاف المشاهد والصور، واختلطت الملامح والخطوات.. لم تعد (الكلمة) عطاء العقل لصياغة فكرة جديدة للحياة، بل أصبح كل عطاء الإنسان: أن يكرس أحلامه (الذاتية) ليكبر فوق الآخرين، بعد أن كان الإنسان يكبر بالآخرين.. بالتعاون، وبالعمل الجماعي، وبالروح، ويشمل الأسرة الملتئم، وبروابط القربى، ويشرف الصداقة التي لا تطعن في الظهر!!

-إننا في هذا العصر، كما صور المفكر الفرنسي (ريجيس دوبريه) وهو يحرضنا أن تفتح كيس هذه الحضارة الفضفاض ونملأه بالنار.. فقال شهادته التي كتبها على حائط العصر:

- (ما هو الفرق بين النوم الأبيض والموت الأبيض في العالم الثالث؟!

-فانتازيا الجوع، أم فانتازيا الديون؟!

-إذن.. لنطحن كل هذه الورق من أجل كل هذا العالم ونعلن: موت القمح.. إذا تأسَّف التراب لأنه فقد يديه في الحروب، فيجب عدم الأخذ بأعذار الوهلة الأولى.. إن الماس يجلس فوق الطاولة، فهل بحثت يا صديقي عن قلبك بين الوحول)؟!

***

* الحركة بين المسافة والظل:

* اليوم.. كل إنسان - وحده - يتحرك ما بين المسافة والظل!

-وفي هذه الحركة سمعت صوته في سمعي يقول وقد جرَّد حزني من غمده:

-إنني (شاعر) أتحرك ما بين المسافة والظل.. حتى الشعر يصبح بطاقة خبز، وهوية معدة.. فالمادة بلغت حدود الشعر، ونتناسى زمن (التربادور) الذي جعل شعره نغماً ينطلق فوق صدى الجيتار.. ذلك كان يعني: المزج بين اللقمة والإحساس!

-متناقض.. متناقض: أي حافز يمكن أن يتولد في صدر إنسان هذه الزمان.. فالمشكلة ليست في (الحوافز)، ولكنها في (الإنسان) الذي يفتش عن حوافز تمكنه من البقاء (فوق) مهما كانت الوسائل.. ومن دون التناقض: من المستحيل أن ينجح هذا اللون من البشر في التحكم بدفة حياته.. فعندما يصيب النجاح: يضحك بلا حدود.. وعندما يطعنه فشله: تتبدل حوافزه!

-اليوم.. أجلس متأملاً هذا المشهد الغريب المتناقض أمام عينيّ وفي تفسيراتي له.. أحاول في (التأمل): استرجاع حقبة من الزمان اندثرت في هذا العصر الجديد.. وهي: حقبة قوى الكلمة الطاعنة، التي برز في ساحتها: كُتَّاب الكلمة الطاعنة للحقيقة المطعونة،

ولقيم الرجال، وللتاريخ وصناعه، وللرؤية المحايدة والنافذة.. وتمددوا من تلك الحقبة ليتوالدوا ويتكاثروا كالفئران في هذا العصر المعاصر.

كانو يصولون - منذ بدء تلك الحقبة في نهاية الخمسينيات - على امتداد الساحة كالفرسان، ولكن مضمون كتاباتهم يعتبر قتلاً للضمير وغدراً بالحقائق.. وكان الوهج الذي يشد الناس إليهم ينحصر - فقط - في (الأسلوب) الذي يكتبون به.. فكان أسلوبهم هو (وهجهم) أما أفكارهم وإسقاطاتهم فقد كانت منذ تلك الحقبة: تظليماً وتعتيماً لآراء الأمة العربية ورؤيتها.. وحتى هذه المرحلة التي نعيشها وهم يلوكون (استعلاءهم) على كل الشعب العربي دون أن يلاحظوا انحدارهم المتسارع في السلوكيات والأفكار!!

* حجر يهودى في النهر:

* وفي هذا التأمل.. مازلت أحاول استخلاص إجابة دقيقة على هذا السؤال:

- هل نحاسب أنفسنا - كإعلام عربي موجه - على ما نطلقه من كلمات مكتوبة ومرئية ومسموعة؟!

هل الكلمات التي قلناها في الماضي.. هي التي تحاسبنا اليوم على وضعنا لها في السابق، ثم على وضعنا الذي وصلنا اليه اليوم؟!

البعض: صار يتوعد زمنه، ويفقد هذا الزمن.. فما أسرع ما تتحول الكلمات إلى حجر يهوى في النهر!

(وما أكثر الأحجار التي استهدفت (الرجال) - رجال التاريخ وصناعه - ثم تهاوت في الأنهار!

وما أنبل وأصفى تلك الأنهار التي ابتلعت الاحجار، واستمرت شاهداً في الحياة، وشاهداً عليهم!

بالأمس.. كانت كلمات بعض الصحافيين العرب عن وطننا - هذا الكيان الكبير: تنتعش تعريضاً بمواقف المملكة العربية السعودية، واغماضة أعينهم عن انجازاتنا.

_ واليوم.. تصبح كلمات البعض: النابت من رحم العجز العربي، وتدليس بعض الساسة، والصمم العربي، والبكم العربي.. أمام التقدم والتحديات: كلمات يرى فيها ذلك (الربع) أن مواقف المملكة: (مطلوبة وليست طالبة)... ونحن في مكاننا الثابت: لا نرفض أن يرجع هؤلاء إلى الصواب، وإلى تلمس الرؤية الحقيقية.. وأن مواقف المملكة: فعالة وعربية.. وأنها الكيان الكبير الذي لايمكن تجاهل تأثيرها على المناطق المحيطة بها.

(وقبل أعوام.. بادر أحد هؤلاء الذين أجادوا قذف الأحجار في الأنهار، فأطلق اصطلاحاً سياسياً جديداً لما سماه واقع العالم العربي، فقال: (تراجعت الثورة، وتقدمت الثروة).. وكان يشير إلى: انحسار القوى التقدمية، وتقدم (القوى التأخرية) أو قوى الرجعية كما كان يسميها.. وكأنه أراد يومها أن يوحي للمواطن العربي: أنه أصبح اليوم نصيراً للقوى التأخرية، أي للذين يملكون الثروة.. وأراد يومها أن يتخابث فيقول: إن القوى التقدمية كانت فكراً ورأياً، بينما القوى التي تضغط اليوم (الرجعية) أو قوى الثروة: لن تكون سوى مال مدفوع، ولا تأثير إلا للمال.. حتى جاء واحد من (قواهم) التقدمية، فأغار على جاره واحتل وطنه، وسرق ثروته، وتسبب في حرب باهطة التكاليف: أكلت الأخضر واليابس.. فلم تعد هناك: قوى تأخرية، ولم يعد هناك شعار (تراجع الثورة، وتقدم الثروة)، لأن الثروة التهمتها نار الحرب التي أشعلها زعيم تقدمي كان يغار من صرف هذه الثروة على خطط التنمية ورفاهية الشعب!

(ومازال ذلك الكاتب التقدمي رافع الشعارات من قاذفي الأحجار في الأنهار: يدافع عن صدام حسين الذي أجهض تقدم الثروة، وأهدى ثروتنا للقوى العظمى: قيمة سلاح، وتحرير أرض!!

ولا نظن أننا في حاجة إلى تذكير باضاءات تاريخ (القوى التأخرية) أو الرجعية.. ولكننا نتوقف - تاريخياً - أمام هذا السؤال:

- ماذا فعلت (القوى التقدمية) بما بعد النكسة، وبحرب لبنان الأهلية، ثم الآن في مسؤولية تعمير لبنان، ويزرع القلاقل والفتن، واحداث المجازر وسفك الدماء وانتعاش الإرهاب.. ألم تكن (القوى التقدمية) من الأسباب الأساسية في هذا التقهقر بأمن وسلام الوطن العربي كله من (المحيط الهادر.. الى الخليج الثائر)؟!

(بينما هذه (القوى التأخرية) التي جاءت ب(تقدم الثروة).. قد حققت: وحدة الأمة العربية بالعمل والتضامن، وكسبنا حرب العاشر من رمضان، ونجحت في اسقاط التجذير الذي حدث للبنان أكثر من (14) عاماً.. وكبحت إهدار الدماء.. وقدمت المساعدات المالية لكل الأقطار التي تسبب (تقدم الثورة) فيها إلى نشر الفقر، والأزمات المالية، والقلاقل.. وكان موقف (المملكة العربية السعودية) بالذات بالتعاون مع أشقائها العرب: جزءاً لا ينفصم من تضامنها مع أشقائها، تطلعاً إلى بلورة موقف عربي واحد!

(ولا نقبل - هنا في هذا الوطن المعطاء - أن يتبلور دور المملكة وأهدافها، لتتحول إلى (مجرد حقبة) تاريخية، يقرأها التلاميذ في كتب التاريخ الحديث..

إنما هدف (المملكة): رسالة تستشرف بها الانتصار لعقيدة تدافع عنها حتى الموت.. وهدف المملكة: قيم، هي تراثنا الذي لن نسمح بشعارات دخيلة وزائفة أن تنهشه وتشوهه.. وهدف (المملكة: أن لا تتحول (الثروة) إلى نقمة بل هي نعمة.. وهدف (المملكة): أن يسود (السلام) كل أرجاء العالم في التأكيد دائماً على تثبيت عدالة حقوقنا ومطالبنا عند أصدقائنا، حتى نحد من الدعم الذي تقدمه أميركا لعدونا الأول - إسرائيل!!

إن هذا الكيان الكبير - المملكة العربية السعودية - يبقى دولة فوق الشعارات والأساليب التأثيرية، أو الاستفزازية.. فقد توحد بعقيدة عظيمة وراسخة هي (الإسلام)، في معاني: التوحيد، والوحدة، والانتماء للأرض والأرومة.. دفاعاً عن الدين وانتصاراً لتشريعاته وقيمه ومبادئه!!

- جدة


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة