Culture Magazine Monday  29/10/2007 G Issue 220
فضاءات
الأثنين 18 ,شوال 1428   العدد  220
 
لديهم مثل ما لدينا
عن الأدب والسياسة وجائزة نوبل في أميركا اللاتينية «2-2»
ثائر ديب

 

 

ومع أنَّ فوينتس لم يكن سوى واحد من بين كثرة من كتَّاب أميركا اللاتينية الذين دافعوا عن الثورة الساندينية، إلاّ أنَّه كان من بين أنشط هؤلاء وأشدِّهم فاعلية. وكان فوينتس، في خطاب ألقاه في ماناغوا في كانون الثاني 1988 بعد نيله أرفع جائزة ثقافية في نيكاراغوا، قد انتقد أولئك الذين يريدون من نيكاراغوا (أن تصير سويسرا على الفور). كما قال في ذلك الخطاب أيضاً: (لو أنَّ القوة المهيمنة على العالم تترك نيكاراغوا وشأنها، فإنَّ هذه الأخيرة ستجد طريقها وأسلوبها النيكاراغوي في الديمقراطية). وعلاوة على هذا، كان قد سبق لفوينتس أن قدَّم لكتابين لاثنين من قادة الساندينيستا، أحدهما هو (القتال من أجل السلام)، ويضمُّ مجموعة من خطابات الرئيس السانديني دانييل أورتيغا.

وبالمقابل فقد رأى كراوز أنَّ فوينتس لم يخطئ قراءة الثورة النيكاراغوية وحسب، وإنَّما أخفق أيضاً في فهم طبيعة الثورة الكوبية، فضلاً عن تشويهه المتعمَّد ثورة العام 1910 المكسيكية. وبحسب كراوز، فإنَّ فوينتس (لطالما كان مفرطاً في الخضوع للسلطة والتذلل لها بعيداً عن أيّ حسّ نقدي، وهو أمر لا يمكن غفرانه في بلد كالمكسيك، حيث اندماج القضاء والتشريع والإعلام في النظام على أشدِّه في حين أنَّ الأصوات المستقلَّة الوحيدة هي أصوات المثقفين. وحين انتقل فوينتس إلى الولايات المتحدة وبدأ دفاعه عن الثورة الساندينية، بدا لي أنَّه يكرر أخطاءه السابقة بما فيها من تبسيط وتعمية).

ولأنَّ انتقادات كراوز كانت قد تركَّزت بصورة خاصة على رواية فوينتس (الغرينغو العجوز)، التي تحولت إلى فيلم سينمائي من بطولة غريغوري بيك وجين فوندا، فقد مثَّل الصراع على العلاقة التي تربط بين الرواية والتاريخ واحداً من الأوجه المهمة في هذه المعركة. فرواية فوينتس المشار إليها عبارة عن وصف تخييلي لتورُّط الكاتب الأميركي أمبروز بيرس في الثورة المكسيكية ومقتله فيها. وقد رأى كراوز في ذلك (استغلالاً سيئاً من قبل فوينتس لتاريخ المكسيك. فهذه الرواية هي بمثابة تزييف لذلك التاريخ تحت ستار الأدب, وهي موجَّهة إلى الجمهور الأميركي الذي سيبتلع ببراءة ما قدَّمه له مكسيكي بارز مثل فوينتس). ولدى سؤال كراوز من قبل الصحفيين إن لم يكن للروائي الحقُّ في أن يحرِّف التاريخ ويلويه ويخضعه لأغراضه الخاصة, أجاب كراوز : (أجل. ولكن ليس إلى هذه الدرجة ولا بهذه الطريقة. وحين تكون لروائي مثل هذه الجاذبية الأيديولوجية، وحين يتاخم التاريخ النبوءة والتخييل على هذا النحو، من حقِّنا أن نطالب بمزيد من الصرامة الفكرية. وإذا ما كان الروائي يتَّخذ من التاريخ مادته الخام، فإنَّ من حقّ المؤرِّخ أن يقول له إنك لا تستطيع استخدام مادتي الخام بهذه الطريقة).

وبخلاف حماس كراوز وحدَّته، فإنَّ فوينتس رفض الانجرار إلى هذا السجال. وحين طلب منه أن يعلِّق على الأمر، ردَّ بجفاف قائلاً : (أيّ سجال؟ لن أتفوَّه بشيء عن ذلك. دعهم يضجُّون. لو قضيت حياتي أردُّ على الانتقادات، أو أثني عليها، لما كان لديَّ الوقت للقيام بأيّ شيء آخر. سياستي حيال هذا الأمر هي الصمت، وسأترك لأصدقائي مسألة الدفاع عني). وبالفعل، فقد قام أصدقاء فوينتس بهذه المهمة بحماس كاد أن يفوق حماس كراوز. ففي الملاحق الأدبية، والمجلات، والصحف هوجم كراوز بوصفه (مطية لشخصيات من اليمين المتطرف الذين يحتفون به في الولايات المتحدة)، ووصفت مقالته بأنها (تشهير خسيس باعثه الحسد حيال فوينتس ونجاحه العالمي). ومما كتبه المؤرّخ والناقد فرناندو بيتيز بهذا الشأن في يومية مكسيكية يسارية: (في المكسيك، يمكن غفران السرقة والجريمة، أما النجاح فلا).

وفي نقلة مثيرة من نقلات هذا الصراع، كان أن أشار عدد من المعلِّقين إلى أنَّ الكاتب الفعلي للمقالة المنشورة في (Vuelta) إنَّما هو أوكتافيو باث وليس كراوز. أمّا التفسير الذي شاع في الملاحق الأدبية وأحاديث المقاهي فهو أنَّ باث الذي تقدَّم في العمر كان يدرك أنَّ من غير المحتمل أن يحظى بجائزة نوبل كاتبان من البلد الواحد نفسه خلال فترة قصيرة، وخاف أن يسبقه فوينتس، الذي يصغره بحوالي خمسة عشر عاماً، إلى هذه الجائزة، ولذا فقد أطلق هذه الحملة الرامية إلى تسويد صفحة فوينتس وتحسين فرصه الخاصة.

وفي محاولة لتبرئة ساحة باث، نشر كراوز في 31 آب 1988 رسالة وجّهها إليه باث قبل نشر المقالة أول مرَّة، يقول فيها إنَّه (انزعج) من تقويم كراوز لروايات فوينتس، هذا التقويم الذي (لا يفتقر إلى الكرم وحسب وإنَّما إلى العدل أيضاً). ولدى سؤال باث عن موقفه، قال: (لا علاقة لي بهذا الخلاف. أنا أقدِّر الرجلين. وموقفي السياسي واضح، ولست عازماً على التورّط في أيّ حماقة أو غباء. إنني معنيّ بالسياسة المكسيكية، وهي أهمّ عندي بكثير من سجال حول نيكاراغوا. ولست مهتمّاً بما يقال عن أن كراوز قد تصرّف بأمر مني. وسواء كان هؤلاء شخصاً واحداً أو مليون، فهم لا يستحقون الاحترام). وعلى الرغم من تمنُّع باث، إلاّ أنَّه أشار إلى ما وجده من (عدم الاتّساق) في مواقف من اندفعوا لنصرة فوينتس. كما ذكّر بمظاهرات كانت قد نظِّمت ضده أمام السفارة الأميركية في مكسيكو عام 1984 بعد إلقائه خطبة في ألمانيا الغربية قال فيها إن (نخبة من الزعماء الثوريين قد صادروا الثورة الساندينية)، وأشار إلى ما يتعرّض له الهنود في صحافة نيكاراغوا من إساءات. وقال باث: (لم ينقم أحد حين أحرقت صورتي كما لم كنت شريكاً لريغان. ولم يثر ذلك أية فضيحة. أما الآن، وقد انتقد كراوز فوينتس، فهناك جميع ردَّات الفعل هذه).

أما أشرس المدافعين عن فوينتس فكان توماس بورج، وزير داخلية نيكاراغوا الذي يقرض الشعر. ففي مقالة نشرت في ماناغوا وفي مكسيكو سيتي أواخر آب 1988، سخر بورج من كراوز بوصفه (شريط تسجيل لباث). ورأى أنّ الهدف الحقيقي للهجوم ليس فوينتس وإنما نيكاراغوا.وقال أيضاً: (إنّ كراوز إذ يحاول تسويد صفحة مكسيكي كفؤ ومؤهّل لأن يكون شاهداً على المأساة في نيكاراغوا،إنما يحاول إقناع الكونغرس الأميركي بالموافقة على تقديم مزيد من الدعم العسكري للثورة المضادة). وممن هاجموا كراوز أيضاً نوفو أما نيسير، المراسل الأدبي الأسبوعي لصحيفة تصدر في ماناغوا، حيث قال: (وحده الإرادوي مثل إنريك كراوز يمكن أن يرى أنَّ الثقافة والسلطة كيانان مستقلان على طول الخطّ بحيث يستحيل الربط بينهما دون ارتكاب خطيئة أخلاقية). كما أشارت هذه الصحيفة لاحقاً إلى (الرذيلة الميتافيزيقية المتمثّلة في النظر إلى الثقافة والسلطة نظرة مجردة، وليس بوصفهما ظاهرتين ملموستين في سياق اجتماعي وتاريخي محدد...هذه الرذيلة التي تفضي على الدوام إلى حالات من الشحن والتعبئة الأيديولوجيين). الثقافة والسلطة، الرواية والتاريخ، الشرعية الديمقراطية والشرعية الثورية، نوبل وأميركا، الوطن والعالم، الموضوعية والأيديولوجيا... الخ، لكأننا في بلاد العرب.

- دمشق


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة