Saturday 26/10/2013 Issue 15003 السبت 21 ذو الحجة 1434 العدد
26-10-2013

عن قيادة المرأة للسيارة مرة أخرى

في مقال الخميس، ذكرت شواهد من الفتاوى المُغلظة لشيوخ كبار العلماء عندنا قديماً حول تحريم قيادة المرأة وكشف وجهها وركوبها مع سائق بلا محرم رجل وفي تحريم استصدار بطاقة هوية وطنية لها. والشواهد التي اخترتها في مقال قبل الأمس الخميس هي من أهون ما قيل في مثل هذه الأبواب، وإنما اخترتها لكونها صادرة من أئمة العلماء عندنا قديما ونجومهم -رحمهم الله وجمعنا بهم في مستقر رحمته-. والغرض من هذه الشواهد هو تبيين أن الذي شكل وكون ثقافة المجتمع هو الخطاب الديني الذي كان يتعامل قديما آنذاك، مع معطياته وأحواله الزمنية المناسبة له.

أما علماؤنا -رحمهم الله-، فقد أصابوا في زمانهم وما أخطأوا.. وإنما الذي أخطأ هو المجتمع السعودي عندما جمُد وعجز عن فهم أقوالهم رحمهم الله، ولم يضعها في معطياتها وسياقها الزمني. فالشواهد التي أتيت بها في مقال الخميس، هي لعلماء كانوا هم أئمة العلم الشرعي في زمانهم، وقد كانوا يعلمون أحوال المسلمين في العالم كله في رأيه في الحجاب وكشف المسلمات لوجوههن، وفي قيادة النساء وفي الهوية الوطنية. ويعلمون أنه لا يقع عند المسلمين في أصقاع العالم ما وصفوه من هذا الفجور والفحش والدياثة، وحاشهم أن يقذفوا عموم أهل الإسلام بذلك. إنما كانوا -رحمهم الله- متوجسين من الذي اعتقدوه أنه سيلحق المجتمع السعودي أذا حذا حذو أهل الإسلام في أصقاع الأرض لاعتبارهم -رحمهم الله- حالة المجتمع السعودي قديماً وكونهم حديثي عهد بانفتاحهم على الحضارة الحديثة في زمان فتاويهم.

وتخطئة المجتمع السعودي في حاله اليوم وتبرئة جناب علمائنا -رحمهم الله- من الخطأ، له شواهد وأحوال كثيرة مشابهة في السيرة النبوية. فلا يصح مثلاً، أن نحكم بقذارة المسلمين في المدينة النبوية أو أن نأمر المسلمين أن يتقاذرون من أجل حديث بئر بضاعة ونصه «قيل لرسول الله: أنتوضأ من بئر بضاعة وهي بئر يطرح فيها الحيض ولحم الكلاب والنتن، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الماء طهور لا ينجسه شيء». فقد كانت حياتهم رضي الله عنهم قاسية شظفة، وقد كان هذا أمراً ليس مستنكراً في زمانهم، وقد كيفوا حياتهم على شظف الحياة. فلذا فكما أنه من الخطأ -بحجة حديث بئر بضاعة- أن ندعو الناس اليوم إلى رمي القاذورات في الآبار ومصادر المياه، أو ندعهم يفعلون ذلك دون عقوبة، ثم نقول هو أمر فُعل عند الرسول وأقره ولم يأمر بمنعه أو إزالته -كما فعلنا في زواج الصغيرة-. فإنه من الخطأ اليوم كذلك أن نستصحب ثقافة اجتماعية تأسست على فتاوى وأراء لعملاء أجلاء رحمهم الله بنوا فتاواهم على ثقافة زمانهم، -ومنها قيادة المرأة-.

ولكي أصور ثقافة المجتمع السعودي قديماً التي شكلت البنية التحتية في توجيه الفتاوى المتعلقة بالمرأة عموماً عندنا قديما، ومن ثم فعليها تشكلت ثقافة المجتمع السعودي قديماً، ثم تجمدت ثقافتنا اليوم على معطيات تلك الفتاوى، بتجمد التجديد في الفتاوى، فسأقتبس بعضاً من أقوال رئيس القضاة ومفتي الديار الشيخ محمد بن ابراهيم، والذي يختصر ثقافتنا السعودية القديمة في نظرتها للمرأة ويؤكد صحة فتاوى مشايخنا -رحمهم الله- في زمانهم.. ففي الجزء الثاني عشر من الفتاوى لمفتي الديار قال رحمه الله ما نصه «والمرأة من جميع النواحي حتى مصالح نفسها لا تُصرفها؛ ولهذا جعل الشرع ولأية نكاحها إلى وليها لما فيها من صفات النقص، وهي خلقت مُنتفعاً بها مُستعملة».. ثم قال «وما هي النساء؟! فأنهن لسن أكثر من فراش وإصلاح شئون المنزل». ومفتي الديار -رحمه الله- عالم جليل وسياسي محنك ومتحدث خبير بالألفاظ ومعانيها ومتمرس على مخاطبة الملوك والعامة. فهو يدرك أبعاد ما يقول، ولو كان في قوله هذا -في زمانه الذي عاش فيه- أي غضاضة أو عدم لياقة، لما خاطب به عامة الناس وخاصتهم. ولكن هكذا كانت هي ثقافة الناس، وهكذا كان حديثهم، وهكذا كان فهمهم وعلى ذلك كانت حياتهم. وإيرادي لهذا الشاهد، كإيرادي لشاهد بئر بضاعة السابق.

وخلاصة القول: إن تأخر مشروع التنظيم لقيادة المرأة هو نتاج ثقافة المجتمع التي جمدت على ثقافته القديمة بجمود الفتوى.. (وأقول: مشروع تنظيم وليس مشروع سماح، فليس هناك منع من الأصل، وقد سردت أمثلة لحالات مشابهة في المقال السابق).. واليوم وبعد أن بدأت تظهر بدايات فوز صبر المرأة على تأخر تحقيق مشروعها، فإن هناك من يريد استغلال تباشير نجاح مشروع قيادة المرأة، ليفسده بأن يجعله مطية له في نشر مفهوم الغوغائية والفوضى التجمعية المطالبية. فقد نضج والله مشروعها وحان قطافه، فلا تفسده المرأة بيدها، وتجعل من نفسها ومن مشروعها، مطية للخبثاء والمفسدين. فالمرأة قد بدأت تدريجياً في قيادة سيارتها في الشوارع العامة دون أن يعترضها أحد، تماماً كما حصل في كشف الوجه والركوب مع السائق الأجنبي وكما بدأت باستصدار بطاقة أحوال لها مختارة لا مجبرة. وهكذا يتزايد عدد السائقات، حتى تصدر لهن الأنظمة. وأما دعاوي القيادة الجماعية والهوج الذي يدعو إليه البعض فهذه سذاجة مرفوضة تماماً، فما حصلت من قبل تجمعات نسائية من أجل المطالبة بكشف وجهها أو ركوبها مع سائق أو استصدارها لبطاقة الأحوال. فقيادة المرأة اليوم محمية من الحكومة تلميحاً لا تصريحاً في وقتها المناسب، واستصدار الرخص وتنظيم ضمان حمايتها -من السفهاء- أمر قادم ويحتاج إلى تفصيل ومشورة ورأي ودخول للخطاب الديني التجديدي.

hamzaalsalem@gmail.com

تويتر@hamzaalsalem

مقالات أخرى للكاتب