10-11-2014

اللهم هب لنا فضيلةَ التعلُّم من أخطائنا!

* بدْءاً، كلُّ الخلق خطّاءُون، وخيرُهم التوّابون، لا فرق في ذلك بين عرَب أو عجَم.

* وللخطأ ضروب وأصناف يكيّفُها التقنينُ السائدُ والأعرافُ والمواقفُ:

‌أ) فهناك خطأ مقصودٌ يُعاقَب مقترفُه بعقوبة تتراوح شدةً أو لينا تبعاً لعدة متغيرات من بينها ما يرتبه الخطأ من ضيْر ينال حياةَ الإنسان أو دينَه أو حريتَه أو مالَه أو أمنَه أو قِيَمه.

***

‌ب) وخطأُ يقع نتيجةَ الجهل بما يترتَّب عليه، عُرْفاً كان أو قانوناً، وردع مثل هذا الخطأ يختلفُ من حال إلى آخر، بأساليب عديدة منها:

1) أن يتّخذَ الردعُ صفةَ الزجر الناهر أو العقاب الظاهر.

2) وقد يأتي على هيئة نصيحة.

3) وقد يمضي دون ان يسترقَ علمَ أحدٍ من البشر.

***

* هنا لابدَّ لنا أن نتذكر أن بلوغَ الصواب في أمر ما لا يرتب بالضرورة الولوجَ في متاهة الخطأ، لكن المحاولةَ التي يسيّرها الاجتهادُ البصيْر والظن السويُّ قد تتعرض أحياناً لشيءٍ من الزلل، وفي هذا الحال علينا ألاَّ نعتبر الزللَ نهايةَ رحلةِ الألف ميل، فما يدريك أن يكون هذا الخطأُ بدايةَ المسار السويّ، ولذا فعلينا أن نعيدَ الكرَّةَ مرة فأخرى فثالثة حتى ندرك الصوابَ أو يدركنا الصواب!

***

* والأهمُّ من هذا كلّه إدراكُنا الواعي للخطأ نفسه، لأن هذا يحرّضُنا على البحث عن مقومات الغَلبَة على ذلك الخطأ، ومن ثم طرق سبل أخرى لإدراك الصواب، وهذه خطوة هامة في منظومة التصحيح الذي قد ينتهي بالإبداع، إذْ ليسَ المهم أن تُخطِئَ مجْتَهداً أو تجتهدَ مُخْطِئاً، ولكن أن تعرف في كلا الحالين أنك أخطأتَ وأن عليك تقويمَ مسار اجتهادك وصولاً إلى الغاية التي تبتغيها سبيلاً!

***

* أخيراً، هل أدلُّكم على مثل يميط لثامِ الغُموضِ عن بعض ما سلف ذكره، فأقول إن أغلبَ ما تفتّق عنه ذهنُ الإنسان الحديث من ضروب الكيف الحضاري لم يأتِ صدفةً ولا يُسْراً وإنما جاء مُرّاً وغِلاباً، وهل كان الرحيل المأساوي لمأْثُور الذكر والذكرى، عباس بن فرناس إلاّ ثمن اجتهادٍ قاسٍ لم يمنحْ صاحبَه فرصة الاستمرارِ ليكرَّر محاولة التحليق في الفضاء!؟

***

* ورغم ذلك شهد العالم بعد موته أكثرَ من (عباس بن فرناس) بدْءاً بالأخويَن (رايت) وانتهاءً بعباقرة الفضاء الذي لم تُثْنهم إحباطاتُ الماضي عن معانَقَة النجوم البعيدة (وهتْكِ عذرية) القمر قبل أكثر من أربعين عاماً، وما يُدْريكَ ما يأتي به الغدُ، قريبُه وبعيدُه!!

***

* ثم، لماذا يا سادة نذهب إلى القمر نلتمسُ الأمثالَ، تدليلاً على فضيلة الخطأ المقترن بالعمل المتفائل لا القنوط؟ لماذا لا ننظر إلى أنفسنا نحن معشَرَ البشَرِ، استهْداءً بما قاله ربنا العظيم: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} (21) سورة الذاريات. يولُد المرءُ منا فلا يقْوَى على السير بقدميْه وتمضي به الأيام وتَتْرى الشُّهور، حتى يأْنسَ الرغبةَ في ذلك، فيتحامل على نفسه، ويخْطُو خَطواتِه الأولى متعثّراً، وتخونُه قدماه معظم الوقتِ بالسّقوط، لكنه يعيد الكرة مرة فأخرى حتى يستويَ على قدميه في آخر المطاف، وتلك فطرةُ الله التي فَطَر الناس عليها ولن تجدوا لذلك تبديلاً!

***

* وبعد: اللهم إنْ كنّا لا نملك العصمةَ من الخطأ، لأن ذلك فضل إلهي تَختصُّ به مَنْ تشاء، فامنحنا يا رب، القدرةَ على التمييز بين الخطأ والصواب، وارزقنا نعمةَ الصبر كيْلا يكونَ الخطأُ إحْباطاً لنا ينهي توجُّهنا نحو العمل السوي، وينزعَ منا فضيلةَ الثقة، وهبْ لنا يا ربُّ من لدنك بصيرةً تمكّنُنا من تَطويِع الخَطأ، فنَظْهرَ عليه ولا يظهر علينا ويفقدنا القدرةَ على النموّ والسموّ والإبداع!

مقالات أخرى للكاتب