في محراب العدالة، لم تعد الخسائر تُقاس بما يُرى بالعين من نقصٍ في المال أو تلفٍ في المتاع، بل امتد الميزان ليشمل ما هو أثمن: كرامة الإنسان وشعوره وسمعته! فما قيمة الثروة إن لُوِّثت السيرة؟ وما نفع سلامة البدن إن اعتلت الروح بالأذى؟ من هذا الفهم العميق لقيمة الإنسان، بزغ في سماء التشريع السعودي فجرٌ جديد، يضيء عتمة الجراح الخفية ويجبر الأضرار التي لا تندمل بالدواء، إنه «التعويض عن الضرر المعنوي».
إنها بحق نقلةٌ تاريخية في مسيرة العدالة السعودية، تعكس الرؤية الطموحة التي يقودها صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان لتطوير المنظومة التشريعية، والتي تهدف إلى بناء دولة قانون حديثة ومؤسساتية، تحفظ الحقوق وتواكب متطلبات العصر. فلم يعد سيف العدالة قاصرًا على ردع من يعتدي على الحقوق المادية، بل امتد ليحمي المصالح غير المالية للإنسان، تلك التي لا تُرى بالعين المجردة.
هذه النقلة النوعية توّجها نظام المعاملات المدنية، الصادر بالمرسوم الملكي رقم (م/191) بتاريخ 29/11/1444هـ، والذي يُعد بمثابة دستور العلاقات المدنية والمالية في المملكة. هذا النظام الضخم، الذي يضم في طياته 721 مادة، جاء ليسد فراغًا تشريعيًا طال انتظاره، ويوحد الأحكام، ويحقق الاستقرار واليقين القانوني.
إن إقرار التعويض المعنوي ضمن هذا الصرح التشريعي ليس مجرد تحديثٍ في بنود القانون، بل هو إعلانٌ لميلاد مرحلة جديدة من حماية الحقوق اللصيقة بالشخصية، تعترف بأن للآلام النفسية وجروح السمعة وزنها في ميزان الحق.
تاريخيًا، كانت المحاكم السعودية تتعامل مع هذه القضايا الحساسة استنادًا إلى القواعد الفقهية العامة كمبدأ «لا ضرر ولا ضرار»، لكن غياب النص النظامي الصريح جعل الأمر ساحةً للاجتهاد. حتى أتى فجر التحولات التشريعية الكبرى، ليشرق نظام المعاملات المدنية، حاملاً في طياته المادة (138) التي كانت بمثابة إعلانٍ حاسم: «يشمل التعويضُ.. الضررَ المعنوي». هنا، تحول الاجتهاد إلى قاعدة راسخة، وأصبح الحق في جبر الضرر النفسي حقًا أصيلاً له سنده التشريعي المتين.
إن هذا التشريع لا يهدف إلى تضميد الجراح بعد وقوعها فحسب، بل يرسم خطوطًا حمراء للسلوكيات المستقبلية. إنه رسالةٌ بليغة لكل من استهان بالكلمة، أو شهر بسمعة آخر، أو عبث بخصوصية الآخرين.
رسالةٌ تقول: «تريّث، فإن للأقوال والأفعال ميزانها، وللحقوق حمايتها». فكم من دعوى كيدية أرهقت بريئًا، وكم من خطأ مهني لم يترك عاهةً جسدية، ولكنه خلف خرابًا في النفس. اليوم، أصبح لكل هؤلاء بابٌ يطرقونه، لا ليستعيدوا مالًا، بل ليستردوا اعتبارًا، وليشعروا بأن ألمهم الذي لم يره أحد، قد رآه القانون وأنصفه.
لكن، كيف يقاس الأسى الدفين، وكيف يُثمّن جرح الكرامة؟ هنا يكمن التحدي الأكبر، وهنا تتجلى براعة القاضي في الموازنة بين وقائع الدعوى وروح النص. إنها مهمةٌ جليلة، فتقدير التعويض المعنوي لا يخضع لمعادلات حسابية جامدة، بل لسلطة تقديرية تستنير بالبصيرة والعدل.
وقد أدرك المنظم هذه الحقيقة، فمنح القاضي الأدوات النظامية اللازمة لتقدير التعويض بما يناسب كل حالة على حدة. فجسامة الخطأ، ومركز المتضرر الاجتماعي، ومدى انتشار الأذى، كلها معايير تُمزج بحكمة ليخرج التقدير عادلًا، لا هو بالبخس الذي يستهين بالألم، ولا هو بالمبالغ فيه الذي يحوله إلى إثراء بلا سبب.
لم تكن المملكة بمعزلٍ عن هذا التطور، بل سارت على دربٍ مهدته تجارب قانونية راسخة. ففي القانون الأمريكي والبريطاني والفرنسي، استقرت المحاكم منذ زمن على أن جبر الضرر لا يكتمل إلا بمواساة الإنسان. واليوم، إذ تنضم السعودية إلى هذا الركب، فإنها لا تستعير تجربةً فحسب، بل تضيف إليها من خصوصيتها وقيمها، لتثري التجربة الإنسانية في سعيها الدائم نحو عدالةٍ أكثر كمالًا وشمولًا.
في نهاية المطاف، يظل إقرار التعويض عن الضرر المعنوي انتصارًا للإنسانية في أسمى معانيها. إنه اعترافٌ بأن الإنسان ليس مجرد كيان مادي، بل هو عالمٌ من المشاعر. وبهذا التشريع، تؤكد المملكة أن عدالتها ليست صماء، بل تسمع أنين النفس، وترى دموع القلوب، وتجبر خواطر المكلومين، في مشهدٍ رائع تمتزج فيه صرامة القانون بالعدالة الإنسانية.