الثقافية - علي بن سعد القحطاني:
كشفت دار جداول للنشر عن إصدارها الجديد بعنوان «جئتكم بالحكمة: يوسف الصمعان 1968-2024 مقدمات ومختارات»، الذي أعده وحرره الأستاذ يوسف الدّيني، المقرب من الراحل د. يوسف الصمعان، بالشراكة مع الأستاذ محمد السيف..
و الكتاب، يضم 304 صفحات من المقالات والنصوص التي تعكس جهود الصمعان كمثقف وناشر ومترجم بارز.
من أبرز محتويات الكتاب:
_مقالات نقدية حول مشروع المفكر إبراهيم البليهي.
_مقالات نقدية تتناول مشروع الدكتور عبد الله الغذامي.
_ مقالة فريدة عن مدينة حائل.
ويأتي إصدار هذا الكتاب وفاءً لذكرى د.يوسف الصمعان، الذي وصفه الأستاذ يوسف الدّيني لـ»الثقافية» بأنه شخصية نوعية ودؤوبة، ظلّت تثري المشهد الثقافي السعودي والعربي حتى في أصعب ظروفه الصحية.
الصمعان لم يكن فقط ناقداً ومترجماً، بل أسس منصة «حكمة» التي قدّم من خلالها محتوى فلسفياً عميقاً يُخيل للمطلع عليها أنها إنتاج مؤسسة ثقافية كبرى.
في مقدمة الكتاب، يقول الأستاذ يوسف الدّيني: «يا لها من حياة مكتملة رغم قصرها تلك التي قضاها الصديق الراحل د. يوسف الصمعان في محراب العلم والمعرفة دون كلل أو ملل.. في الطب النفسي، الفلسفة، الثقافة، والترجمة الأنيقة والدقيقة. لقد كان نموذجاً للسعي الدؤوب في خدمة الفكر والمعرفة.» يعكس هذا الإصدار مسيرة د. يوسف الصمعان ويُعدّ تكريماً لجهوده التي تركت بصمتها في مجالات الفلسفة والنشر والثقافة. القامة العربية في الفلسفة..
القامة والقيمة
وفي كلمات مؤثرة لـ«الثقافية» وصف الأستاذ محمد الرشودي، نائب رئيس مجلة «حكمة» الفلسفية ومدير مشروع «موسوعة ستانفورد للفلسفة»، صديقه وأستاذه الراحل يوسف الصمعان بـ»القامة العربية في العلم والأخلاق»، مشيداً بإسهاماته الكبيرة في خدمة الثقافة العربية وإثراء المحتوى العربي، وقال: «كان أبو سارة قامة نادرة، يعمل لوجه الله دون انتظار جزاء أو شكر، جاعلاً جهده الثقافي وقفاً لله ولابنه عمر وابنته ريم، رحمهما الله.» وأضاف: «كان الصمعان صديقاً وأخاً ومعلمًا للجميع، تنطبق عليه مقولة محمد بن شهاب الزهري: (إن هذا العلم أدب الله). فقد جمع بين علم غزير وأخلاق نبيلة قلّ نظيرها.
وفي رحلة علمية لم تتوقف حتى في المرض أشار الرشودي لـ»الثقافية» إلى أن علم الصمعان كان «بحراً تجرفه أمواج المعرفة من شتى المجالات»، مشدداً على أنه لم يحتكر علمه بل شاركه من خلال الكتابة والترجمة والنشر. حتى خلال فترة مرضه ووسط العمليات الجراحية التي مرّ بها، لم يتوقف عن العمل الدؤوب في نشر المعرفة، خاصة عبر «مجلة حكمة» و»دار جداول» إرث ثقافي غني ومتعدد.
ودعا الرشودي الجميع للاطلاع على الإرث الذي خلفه الصمعان، قائلاً: «لقد ترك إرثاً غنياً متاحاً للجميع، بهدف إثراء القارئ العربي. هذا الإرث تجده في مجلة حكمة، وفي دار جداول، وفي مقالاته الصحفية التي جُمعت في كتابه الأخير «جئتكم بالحكمة»
التطوع في نشر المعرفة
ويصف الأستاذ عبد الرحمن المرزوقي لـ»الثقافية» مشاعره تجاه الراحل ويعقد مقارنة بين د.يوسف الصمعان وابن الهيثم في سعيهم للسعادة و تفانيهم من أجل العلم والمعرفة والارتقاء بالحضارة، رغم كل الظروف الحياتية التي مروا بها ويقول:أحمل الكثير من التقدير لكل من يسخر حياته في سبيل العلم والمعرفة ونشر الثقافة. كل الحب والتقدير للدكتور الراحل/ يوسف الصمعان، رحيله جرح في خاطر الثقافة السعودية والعربية. يوسف الصمعان -رحمه الله- كان من الذين سخروا حياتهم من أجل المعرفة. إن السعي في طريق المعرفة ونشرها هو الخير المطلق. هذا الخير أحد طرق السعادة الكبرى التي تدوم بالنفس ولا تزول مادام الإنسان مستمراً بالعطاء ونشر المعرفة. كان الكثيرون يستغربون من أين يأتي الصمعان بهذه الطاقة في النشر والإنتاج المعرفي رغم كل الظروف القاسية التي مرت عليه في حياته. وأنا متأكد من أنه كان يذوق من السعادة مالا يذوقه نصف البشر. وأجد هنا تشابهاً بين يوسف الصمعان وابن الهيثم في مفهوم السعادة الحقيقية.
إن التطوع في نشر المعرفة هو المتعة التي تفوق كثير من ملذات الحياة اللحظية. إنها السعادة الحقيقية التي لا تكون غايتها مجرد «إسكات الألم». فمعظم الملذات المادية المؤقتة نابعة بدافع «إسكات الألم». فعندما يشبع الإنسان منها ينتهي الشعور الجميل المؤقت بمجرد «سكت الألم». بل قد يعقب ذلك كره لأنها ليست سعادة حقيقية وإنما هي «إسكات ألم» كالجوع والعطش. فالإنسان، إذا شبع وارتوى ثم شعر بالراحة، فإن تلك الراحة تكون ناتجة عن الحاجة لإسكات الألم الذي يشعر بهِ عند الجوع والعطش. هذه الراحة -بنظر ابن الهيثم- ليست سعادة حقيقية؛ لأنها راحة ألم، فعندما يشبع الإنسان ويرتوي فإنه يكره الطعام والماء ولا يرغبهما. السعادة الحقيقية عند ابن الهيثم هي السعادة التي تطلب لذاتها، وليس لإسكات ألم. هذه السعادة الحقيقية عنده تمثل «العلم بكل حق، والعمل بكل نافع». السعادة التي تكون: راحة من غير ألم السعادة غير المشروطة. سعادة أبدية لا يستطيع تذوق لذتها إلا من تجاوز المادة وارتقى بالعلم والمعرفة إلى معاني وجودية عظيمة في السعي نحو طلب العلم وسبر أغوار الحقيقة، والعطاء غير المنقطع في سبيل نشرها للارتقاء بالنوع البشري معرفياً وأخلاقياً.
يقول ابن الهيثم في (ثمرة الحكمة) «العلم بكل حق، والعمل بكل نافع هما جزءا الحكمة، فإذن إدراك الحكمة هو الراحة من غير ألم، وذلك أن هذه الراحة هي التي تؤثر مع وجود ضدها وعدمه جميعًا، فهي لا تكره في حال من الأحوال، فإن الإنسان الجاهل يؤثر أن يعلم، والعالم يؤثر أن يزداد علماً، فلذلك لزم أن يكون الإنسان فقط مهيأ لطلب المأثور، وهو الذي لا يكره في حال من الأحوال وهو العلم بكل حق، والعمل بكل نافع، فواجب أن يكون إدراك هذا هو السعادة».
منصة «حكمة»
ويؤكد الأستاذ عبد الرحمن المرزوقي لـ «الثقافية»على أهمية منصة «حكمة» الرقمية التي قدّمها د.يوسف الصمعان والتي ترجم فيها أعظم وأهم موسوعة فلسفية « Stanford Encyclopedia of Philosophy». وكذلك، قدم لنا دار جداول التي ساهمت في الفكر العربي بشكل يشهد له كبار المثقفين والمفكرين بالفضل والامتنان. بينما قدم لنا ابن الهيثم أعظم منتج معرفي في الألف سنة الماضية وهو منهجية البحث العلمي التجريبي، الذي أعمل على تصديره في كتاب ينشر قريباً. أشعر بالحب والتقدير والامتنان لهما جميعاً لما تركاه من إرث عظيم، إرث ما زالت ثماره تروي عقولنا وتغذي أجيالنا. وأتمنى أن أذوق السعادة الحقيقية التي سخروا حياتهم من أجلها في سبيل الارتقاء بالعقل الإنساني نحو فضيلة المعرفة، وأن أقتدي بحبهم للعطاء والسخاء الأدبي، وتفانيهم من أجل نشر الفكر السليم ومزاحمة الجهل طوال حياتهم.