الزيارة التاريخية التي قام بها إلى واشنطن صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان ولي العهد رئيس مجلس الوزراء، لها دلالات جمة، فالقمة التي عقدها مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب هي قمة تعميق الشراكات الإستراتيجية بين البلدين في إطار رؤية 2030 التي طرحها منذ سنوات، الأمير الشاب الذي يحلم للمنطقة بأن تصبح أوروبا الجديدة أكثر ازدهاراً ورخاءً وتنمية واستقراراً، ومن ثم فلهذه الزيارة عدة جوانب مهمة منها.
أولاً، هذه الزيارة تنقل العلاقات الثنائية من وضعية الشراكة الإستراتيجية الاقتصادية إلى وضعية الشراكة الإستراتيجية السياسية والعسكرية والأمنية الشاملة، حيث تم توقيع اتفاقية الشراكة الإستراتيجية العسكرية، ما يؤكد المكانة الخاصة الكبيرة التي تتمتع بها المملكة وقيادتها في السياسة الأمريكية، ويؤكد ذلك أيضاً توقيع اتفاقيات وتفاهمات مشتركة لشراء السعودية معدات عسكرية أمريكية متقدمة، ومنها واحدة من أفضل الطائرات المقاتلة في العالم اف 35 التي لا تبيعها واشنطن إلا للدول الحليفة ذات الشراكات الإستراتيجية معها، فحصول الجيش السعودي على طائرة اف 35 ومعدات عسكرية أخرى متقدمة تزيد من قوة الجيش السعودي ما يعطي الدولة والشعب السعودي الأمن والأمان والقدرة على مواجهة التحديات والتهديدات المختلفة.
والعنصر الأهم في هذه النقلة النوعية هو تدشين الشراكة الإستراتيجية في مجال التصنيع العسكري وخاصة نقل التكنولوجيا المتقدمة وتدريب آلاف الشباب السعودي عليها للوصول إلى مستهدفات رؤية 2030، فيما يتعلق بتصنيع السلاح بالمملكة بالتعاون مع شركات صناعة السلاح الأمريكية، فضلاً عن الاتفاقيات النوعية في مجالات الذكاء الاصطناعي ومراكز البيانات والتكنولوجيا المتقدمة، والتي ستحدث نقلة نوعية كبيرة في القدرات التصنيعية السعودية في مختلف المجالات.
فهذه الشراكة الممتدة عبر 90 عاماً منذ قمة الملك عبدالعزيز- طيب الله ثراه- والرئيس الأمريكي روزفلت في 1945 تنتقل اليوم إلى مرحلة أعظم وأقوى من خلال الشراكة العسكرية الأمنية والشراكة في صناعات المستقبل المتعلقة بالذكاء الاصطناعي ومراكز البيانات وغيرها.
ثانياً، كما تعمق هذه الزيارة الشراكة السياسية بين البلدين وتؤكد الدور السعودي وتحديداً رؤية الأمير محمد بن سلمان في تغيير الإستراتيجية الأمريكية المتبعة منذ عقود في التعامل مع أزمات وقضايا المنطقة من إستراتيجية إدارة الصراعات إلى إستراتيجية حل وتسوية القضايا والأزمات والمشكلات، وهي رؤية تقوم على استدامة الحلول والتسويات بديلة عن السلوك القديم القائم علي تسوية المشاكل وفق قواعد توازنات القوة، وهنا يتضح الثقل السياسي الدولي للسعودية التي استطاعت إحداث تغيير كبير في هذه الإستراتيجية بما أدى إلى اطلاق مبادرات لحل وتسوية القضايا الإقليمية الصعبة، حيث لعبت السعودية دوراً كبيراً للوصول إلى اتفاق ترامب لوقف اطلاق النار في غزة كما تلعب دوراً مشهوداً في قضية حل الدولتين للوصول إلى الدولة الفلسطينية المستقلة، فضلاً عن مبادراتها ازاء الوضع في سوريا ولبنان والسودان والصومال وليبيا وغيرها، وهو ما يحدث نقلة كبيرة في أوضاع هذه الدول نحو مزيد من الاستقرار والتركيز علي جهود التنمية الاقتصادية والاجتماعية المستدامة.
ثالثاً، إن مشهد الاستقبال الرسمي والاحتفاء بالسعودية والأمير وخاصة عزف اوركسترا البيت الأبيض للموسيقى السعودية والأغاني السعودية هو مشهد غير مسبوق وتاريخي يؤكد تقدير واشنطن للرياض وقيادتها الحكيمة، وسيذكر كتاب التاريخ أن زيارة سمو الأمير محمد إلى واشنطن يوم الثلاثاء 18 نوفمبر 2025 هي محطة رئيسية فارقة في تاريخ العلاقات الأمريكية السعودية، فلهذه الزيارة ما بعدها من نتائج غير مسبوقة على مستوى الشراكة الاقتصادية والعسكرية والأمنية بل أيضاً السياسية.
إن إبرام عشرات الاتفاقيات ومذكرات التفاهم بين البلدين في مجالات استثمارية واقتصادية وعسكرية وأمنية وتكنولوجية تصنيعية، يعد نقلة إستراتيجية كبرى لعلاقات البلدين التي أصبحت الآن في وضعية التحالف الإستراتيجي على مختلف المستويات.
ويمكن وصف هذه الزيارة بأنها زيارة ضبط إيقاع العلاقات بتوقيت الرياض على خط الشراكة الإستراتيجية في كل المجالات، إذ تمتلك الرياض أوراقا تفاوضية ودبلوماسية عديدة وقوية من بينها ورقة التطبيع مع إسرائيل الذي تستخدمه القيادة السعودية بذكاء شديد لوضع حل نهائي مستدام وآمن للقضية الفلسطينية بإقامة دولة فلسطين المستقلة على خطوط الرابع من يونيه 1967، كما تستخدم القيادة السعودية وبحكمة ورقة القدرة المالية الضخمة التي تتمتع بها المملكة وجعلتها أهم لاعب دولي في مجال الاستثمارات وفي مجال المساعدات الإنسانية وفي مجال دبلوماسية التنمية، فضلاً عن دبلوماسية فض النزاعات وبناء الاستقرار في منطقة عانت لعقود من عدم الاستقرار والصراع والحروب، لذا سعت ونجحت المملكة في جعل المجتمع الدولي وخاصة الولايات المتحدة تغير إستراتيجيتها من إستراتيجية إدارة الصراعات والأزمات إلى إستراتيجية بناء الاستقرار وحل وتسوية الأزمات والمشكلات، ما يؤدي إلى تحقيق الأمن والاستقرار ومن ثم نجاح سياسات التنمية والتعاون الاقتصادي والرخاء الاقتصادي للجميع لتحقيق حلم ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان الذي صرح به مراراً وتكراراً. «رؤيتي وجهدي هي أن يصبح الشرق الأوسط أوروبا الجديدة».
** **
- مختار شعيب