الثقافية - علي بن سعد القحطاني:
يُجمع النقاد على أن الجمع بين الصرامة الأكاديمية والروح الشعبية في دراسة الأدب يُكسب الباحث أفقًا أوسع في الفهم والتحليل، وهو ما تجلّى في تجربة الناقد الدكتور: محمد بن راضي الشريف، الذي جمع بين التكوين العلمي المتين والاهتمام بالتراث الشفاهي والأدب والتاريخ فصاغ مسيرته بوعيٍ نقديٍّ يربط النص بحركته في المجتمع.
ويرى الدكتور الشريف أن الثقافة الشعبية ليست مجرد موروثٍ يُروى أو حنينٍ إلى الماضي، بل هي منجمٌ ثريّ يمكن أن يمدّ النقد الأدبي بأدوات جديدة لفهم الإنسان وواقعه، مؤكّدًا أن النص الأدبي لا يُفهم بعيدًا عن بيئته وثقافته.
وتناول في حديثه لـ«الجزيرة الثقافية» ملامح المشهد الأدبي في المدينة المنوّرة خلال القرنين الثالث عشر والرابع عشر الهجريين، وقضايا الانتحال في الشعر العربي القديم، وتجارب التجديد في الموشّحات الأندلسية وشعر المهجر، إلى جانب رؤيته لتجربة الهايكو العربية وأهمية الحكايات الشعبية في حفظ الذاكرة الثقافية.
التاريخ الشعبي
كيف تمكّنتم من الموازنة بين العقل النقدي المحقّق والوجدان الشعبي الراوي؟ وهل ترون أن الثقافة الشعبية يمكن أن تكون منجمًا للنقد الأدبي لا مجرّد مادة تراثية؟
الأكاديمي صاحب نشاط بحثي مميز يسهم في دفع عجلة العلم في مجاله، ومرتكز هذا النشاط هو المنهج العلمي الذي يستدعي ممارسات غايتها الحكم الأمثل الدقيق على الأشياء والظواهر، لذلك فمن شأن الأكاديمي البحث عن الوسائل التي تؤدي إلى فهم العمل الأدبي من وجوه عدّة، فالأدب يتواشج مع كافة نواحي الحياة لتكون محصّلته صورة تعكس تفاعل الإنسان ورحلته الزمنية مع ما يمرّ به، ولا يتأتّى ذلك الفهم إلا بالغوص في الحراك الاجتماعي للوقوف على طبيعته بشكل مباشر، فالأدب الحقيقي مُخرج معاناة حياتيّة، تلك المعاناة التي بلورت شعر امرئ القيس وتأبّط شرًّا ومجنون ليلى وكثيّر والمتنبي، بل حتى علية القوم وأشرافهم عانوا، ولكل شخص منهم تجربته الخاصة، فالشريف الرضي وأبو فراس الحمداني وأبو الحسن التهامي والسلطان سعيد بن أحمد البوسعيدي والأمير عبد الله الفيصل لهم معاناتهم الخاصة.
مرّت بي عبارة (معجون النجاح) في بيت من قصيدة مدح للشاعر المدني جعفر البيتي، حين يقول:
وامنن بحقّة معجون النجاح لنا
وابعث بها عِوضًا عن علبة الصّبِرِ
ظننت أنّ معجون النجاح تركيب مجازي من لدن الشاعر، لكنني فوجئت أن معجون النجاح هو أحد المعاجين التي ذكرها الطبيب داؤود الأنطاكي في تذكرته، فلو لم أقرأ كتاب تذكرة داؤود الأنطاكي ولم أعلم أن جعفر البيتي كان متضلّعا بالعلوم الطبية لفاتني معنى التركيب.
ولن يفهم الناقد المهتم بدراسة الشعر الجاهلي، بل شعر البادية في الجزيرة العربية إلا بفهم ودراسة الشعر الشعبي وطبيعة الحياة، وخاصة البدويّة في العصور المتأخرة التي حفظ لنا الشعر باللهجة المحكيّة الدارجة جل ملامحها وتمظهراتها، فقد فات ناقد أكاديمي عربي كبير كان يدرّس الطلاب في جامعة سعودية فهم تعلّق قيس بن الملوّح بليلى العامرية في وقت لم يكن فيه مكياج أو تصفيف شعر؛ لأنه جاء من بيئة حضرية ترى جمال المرأة في حسن لباسها ومكياجها وتسريحة شعرها. ولم يعرف مقاييس جمال الفتاة عند بدو صحراء الجزيرة العربيّة.
فالثقافة الشعبيّة جزء لا يتجزّأ من حاضرنا وماضينا، وفي مجافاتها مجافاة لجلّ مشهدنا الثقافي، فنتاج الزير سالم وامرئ القيس وعنترة بن شداد ومالك بن الريب، والأخبار التي رويت حولهم شعبية بامتياز، ولا تختلف عن الأشعار والأخبار التي رويت عن أبي زيد الهلالي وراشد الخلاوي وشايع الأمسح والجديع بن هذال ومويضي الدهلاوية وسطام الشعلان وخلف الأذن وتركيّة المهيد والمهادي والأمير غزالان ودخيل الله الدجيما وغريب الشلاقي وبركات الشريف ومحمد بن عون وجهز بن شرار.
فمعرفة طبيعة الحراك المجتمعي ومآثره ليس ترفًا أو متطلّبًا اختياريًّا، بل هو مطلب تمليه الحاجة الماسة للمعرفة المباشرة وليس المعرفة التصوّريّة الافتراضيّة.
المشهد الأدبي في المدينة المنورة
كيف ترون ملامح المشهد الأدبي في المدينة المنوّرة خلال القرنين الثالث عشر والرابع عشر الهجريين؟ وما الدور الذي نهض به نادي المدينة الأدبي في صون هذا التراث وإحياء الذاكرة الثقافية للمدينة عبر أنشطته وملتقياته؟
المشهد الأدبي في القرن الثالث عشر الهجري لا ينفكّ عمّا سبقه من عصور، وهو ينتمي لما يسمّى بعصر الدول المتتابعة أو عصر الدول والإمارات أو العصر المملوكي والعثماني، وقد تأخر التأثر بحركات التجديد والتحديث في العالم العربي في مصر والشام والعراق التي بدأت في نهاية القرن الثالث عشر الهجري، إذ بدأ الأدب يتغيّر ويكتسي موجة التحديث بعد أن استقرّت الدولة السعودية الثالثة على يد الملك المؤسس المغفور له الملك عبد العزيز آل سعود الذي جعل الاستقرار ونشر التعليم وبناء المؤسسات مرتكزا لتأسيس الدولة الحديثة، حيث أنشئت المؤسسات التعليمية والصحافة والإذاعة والتلفاز والأندية الأدبية والمكتبات العامّة، التي ساهمت كلها في دعم الأدب ونشره، وكان للنادي الأدبي بالمدينة المنوّرة الذي تأسس على ما أنشأته أسرة الوادي المبارك من أبناء طيبة الطيبة الأدباء، حيث ساهم النادي الأدبي بطباعة ونشر أعمال الأدباء ودراسات المختصين وإقامة المحاضرات والأمسيات والملتقيات التي دعمت الحركة الأدبية ونهضت بها. والمدينة المنوّرة غنيّة بمكتباتها القديمة الغنية بالكتب المخطوطة التي لم تمتدّ إليها يد الاهتمام، من دواوين شعرية ومصنفات، وقد ألقيتُ محاضرة في نادي المدينة المنورة الأدبي عن خطب الإملاك - خطب حسن مصطفى البوسنوي أنموذجا- وهو الشاعر الخطيب في المسجد النبوي الذي عاصر الشيخ عارف حكمت صاحب المكتبة المعروفة، وقد جعلت الشعر في المدينة المنورة في القرن الثاني عشر الهجري موضوعا لرسالة الماجستير التي طبعها نادي المدينة المنوّرة الأدبي عام 1423هــ، وهناك دواوين جاهزة للطبع عملت على تحقيقها يرجع الفضل في الحصول على صور من نسخها المخطوطة إلى مكتبات المدينة المنورة التي جمعت تحت مظلة واحدة، هي مجمع الملك عبد العزيز للمكتبات الوقفية في المدينة المنورة.
من هذه الدواوين ديوان محمد يحيى قابل الجداوي الذي نلت درجة الدكتوراه على دراسة شعره وتحقيق ديوانه، كذلك ديوان محمد خليل السمرجي الجداوي، وديوان فتح الله ابن النحاس الحلبي نزيل المدينة المنورة الذي طبع ديوانه عدّة مرّات آخرها بعناية الدكتور محمد العيد الخطراوي - رحمه الله؛ إذ يحتاج إلى مزيد تحقيق بعد توفّر نسخة لم يطّلع عليها من أخرجوا ديوانه سابقا.
الموشحات الأندلسية.. وشعراء المهجر
كيف أعاد الوشّاحون في الأندلس وشعراء المهجر في الرابطة القلمية والعُصبة الأندلسية صياغة الذائقة الشعرية العربية؟ وهل يمكن القول إنهم منحوا القصيدة العربية بعدًا موسيقيًا وإنسانيًا جديدًا تجاوز حدود الشكل التقليدي؟
الموشّحات الأندلسية أقرب إلى روح الشعر العربي من الشعر الحر أو قصيدة النثر، لكن أصحابها لم يتجرّأوا على تسميتها شعرا احتراما لديباجة وسمات القصيدة العمودية العربية، وهي مما أملته طبيعة الحياة الأندلسية؛ حيث جمال الطبيعة ورفاهية الحياة وانتشار مجالس اللهو والطرب، وكذلك الشعر المهجري الذي جاء موافقا لطبيعة الشعر العربي من حيث الديباجة واللغة الفصحى مع اصطباغه بطبيعة المهجر الأمريكي، وهو بلا شكّ يعدّ نقلة في تاريخ الشعر العربي الحديث من حيث التجديد في الأغراض والديباجة.
قصيدة الهايكو اليابانية
لكم عناية خاصة بتجربة الهايكو في الشعر، ذلك الفن القائم على التكثيف والدهشة؛ كيف تقرأ حضور الهايكو في المشهد العربي؟ وهل استطاع الشعراء العرب أن يمنحوه روحهم الخاصة دون أن يفقد نكهته الشرقية الأصلية؟
- قصيدة الهايكو اليابانية التي لا تتجاوز كلمات قليلة تربتها يابانية خالصة، وهي قصيدة اختصت بالمشهدية، إذ تختص بالحديث والوصف الآني لالتقاطه للبسيط المهمل دون استخدام المجاز والأيدلوجية والفلسفة، وذلك لم يتحقق في جل نصوص من كتبوا قصيدة الهايكو العربي، فقصيدة الهايكو يجب أن تحترم الأصول اليابانية لكتابة هذا الفن وإن خرجت فلا يحق لكاتبها أن يسميها هايكو، بل يطلق عليها اسما يناسبها كقصيدة التصويرة أو التوقيعة الشعرية، وقد تنبّه الشاعر الناقد عز الدين المناصرة – وهو أوّل من تأثّر بقصيدة الهايكو في الستينيات الميلاديّة - لتلك الطبيعة فلم يطلق على محاولاته التي استوحاها من قصيدة الهايكو اليابانية قصيدة هايكو بل سماها «توقيعة «وسمّاها «الفنّ الخامس» بعد قصيدة العمود والموشح والشعر الحر التفعيلي وقصيدة النثر، لأنه يدرك أنه خرج فيه عن الأصول اليابانية التي تؤسس لقصيدة الهايكو ليخدم القضية الفلسطينية بهذا الفن، وليستخدم الرمز والمجاز في صياغتها.
حكايات الجدات والأساطير الشعبية
ما دور حكايات الجدّات والقصص والأساطير الشعبية في تعزيز الوعي الجمعي والخيال الأدبي؟ وهل يمكن أن تساهم استعادة هذه المرويات في زمن التقنية في حفظ الذاكرة الثقافية أم أنها تتحول إلى مجرد مادة فولكلورية للحنين؟
الحكايات الشعبية جزء لا ينفك عن إرثنا الثقافي الشفاهي الذي احتفظت به الذاكرة على مدى قرون، وهو محصّلة تجارب وأساطير تناقلتها الأجيال المتعاقبة، وقد انحسرت هذه الحكايات أمام الحياة الحديثة التي تعددت بها أوعية الترفيه واستقاء المعلومات، لكنها تبقى إرثا عزيرا له مدلوله ومضامينه، وقد يسيء التدوين وتحويل هذه الحكايات من الشفاهيّة إلى الكتابيّة إلى طبيعة هذه الحكايات، لكن التدوين أمر تحتّمه الرغبة في حفظ هذا الموروث الذي يحكي التاريخ وطبيعة المجتمع ومعرّض للانقراض والضياع، وقد تتيح مدوّنته إلى توظيفه واستثماره في حقول كتابية وفنية أخرى كالرواية التاريخيّة والسينما والمسرح.
وقد بادرت الأمم المتقدّمة إلى تدوين الحكايات منذ قرون خلت، فقد ساهم الإيطالي جامباتيستا بازيلهْ (ت1632م) في كتابة الحكايات التي استمدّت حبكاتها من نماذج عريقة في القدم، وقد أصبحت حكاياته مصدر إلهام لكثير من الكتّاب الأوربيين في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وقد اعتنى بإخراجها الفيلسوف بندتّو كروتشه، ونشرت في الربع الأول من القرن العشرين، كما استغرق الأخوان (جريم) في ألمانيا تجميع الحكايات الشعبية أكثر من خمسين سنة ليخرج عملهما في ثلاثة مجلدات تحت عنوان (حواديث الأطفال والبيوت) في مطلع القرن التاسع عشر الميلادي، ومنذ ذلك الحين وحتى اليوم تُطبع هذه الحواديث سنويا لتلاميذ المدارس.
وترجع محدودية التدوين والاهتمام بالحكايات الشعبية إلى النظرة الدونية من لدن القادرين على التدوين كونها تصدر عن عجائز أمّيّات إضافة إلى لغتها المغرقة في اللهجة المحليّة، على أن الجدّة والتي أفضّل أن تكون حاضرة في عتبة عنوان هذا الفنّ كانت في الماضي تتبوأ دورا أساسيا في البيت فهي الآمرة الناهية المعالجة صاحبة الخبرة والرأي.
** **
@ali_s_alq