الشتاء ليس فصلًا باردًا، بل توليفة من روائح ممزوجة بالحنين والسكون، توقظ الشوق إلى زمن مضى وأشخاص رحلوا، وتُعيدنا إلى فصول قديمة من طفولتنا مختبئة في زاوية من القلب. سرعان ما نسترجعها لمجرد استنشاقنا لرائحة معينة، فالروائح ترتبط بالاستجابات العاطفية وتبقي الباب مفتوحًا لاستحضار الذكريات، وتُعيدنا إلى لحظات لا تشترى.
العلاقة بين الروائح والذكريات وطيدة، فالروائح تخزن -في البداية- الذكريات والتجارب العاطفية والمشاعر في العقل وتسترجعها إذا عرضت للشخص فيما بعد ولو بعد مدة طويلة.
على سبيل المثال، اعتدنا -منذ صغرنا- مع انخفاض درجات الحرارة الخروج إلى الصحراء والاستمتاع بها، لنستقبل البرد بشغف الطفولة، ونتأمل النجوم، والنار تضطرم حولنا ورائحة السمر، وأحاديث دافئة ممزوجة بضحكات تنساب كخيوط الضوء من بين النجوم، وخرجنا -مرة- إلى البر فتسربت إلينا رائحة عادم ماطور الكهرباء فتغلغلت إلى ذاكرتي كالرصاصة، وأيقظت شيئًا نائمًا في أعماقي. تنهدت بعمق وتوقفت لوهلة أتساءل: أين شممت هذه الرائحة؟ يا الله! هذه الرائحة أثارت ذكريات دافئة من طفولتي، وأخذتني بعيدًا إلى زمن، ومكان، وأحداث لن تعود، نعم، الطفولة حيث اعتدنا الذهاب إلى المخيم لقضاء إجازة الربيع بصحبة والدي -رحمه الله- وعمي وجميع أسرتنا، كنا ننصب الخيام ونبيت شهرًا كاملًا، نستقبل الزوار، ونلهو بين الرمال، ونتسلق الجبال، ونمارس جميع طقوسنا في هذه الصحراء الشاسعة.
أرائحة عادم الماطور استفرغت جميع ذكرياتي وأنا طفلة؟
يمكن أن تكون الروائح المألوفة محفزات إيجابية، وقوية للحنين والراحة، تُعيدنا إلى الأوقات السعيدة في ماضينا، ففي صباح ذاك اليوم، كانت أيدي عمي محمد -رحمه الله- تُحضر لنا حليب الزنجبيل، والبخار يتصاعد، والرائحة تتسلل إلى قلوبنا قبل أنوفنا، وكأن رائحته تُعلن بداية اليوم، وصوت عمي وهو يقول: (يلا حليب الزنجبيل من يبي حليب؟ يلا تعالوا) كنا نتراكض والفرح يتراقص في أعيننا بهذا الحليب المحضر بروح ندية، الذي يملأ القلوب قبل الأكواب، وكل رشفة منه كانت تشبه حضنًا دافئًا.
أما في زاوية المخيم، فكانت رائحة الفول، تُشبه بساطة الحياة، وألفة الصُحبة، ودفء العائلة، نلتف حول مائدة الطعام، صغارًا وكبارًا، في خيمة كانت كعباءة أم حنون تحتضن صغارها، هذه الرائحة الآن تُعيدنا إلى دفء اللحظات، إلى أشخاص لم يبقوا معنا، إلى أحاديث مازالت معلقة في الهواء، وإلى طعام كان يُعد بحب قبل أن يُقدم. فــ»الرائحة هي مفتاح الذاكرة، تفتح أبوابًا مغلقة منذ زمن، وتعيدنا إلى لحظات لم نكن نعلم أننا نحتفظ بها» كما ذكر مارسيل بروست.
وفي الصحراء حيث الكثبان الرملية، ورائحة الأرض الممطورة، كانت رائحة والدي التي لا تُشبه سواها، رائحة ممزوجة بالهيبة والطمأنينة، كان أنيقًا وكان عطره من ماركة «شانيل» لم يكن مجرد رائحة فرنسية راقية، بل كان بصمة خاصة له، يُعلن عن وجوده قبل أن يتكلم، حين يتحرك كانت رائحته تسبقه، تحضر في المكان بصمت ووقار يشبه احترامنا له، وكأنها تقول: «أنا دائمًا معكم، لا تنسوني». وإلى يومنا هذا كلما مرّ بي عطر «شانيل»، يتوقف الزمن ويذهب بي إلى تلك اليد الحانية التي تُربت على كتفي، والأمان الذي لا يُشترى، ونداءاتي التي تختصر الحب والاحتواء ومنها: (أبوي عطني جرعة حنان)، وإلى ذلك الحضور الذي لا يُنسى. رحمة الله تغشاك يا أبي، فقد تركت في الذاكرة رائحة لا تموت، فبعض الروائح لا تُنسى، لأنها ليست مجرد عبير، بل لحظة حب، أو فراق، أو لقاء أول.
كيف لرائحة أن تحمل كل هذا؟ كيف لعادم الماطور أن يعيدني إلى حضن الذكريات، إلى المخيم، إلى صوت الماطور المتقطع وكأنه نبض قلبٍ قديم، إلى كوب الحليب بالزنجبيل، إلى رائحة والدي، إلى أحاديثنا وضحكاتنا، فرائحة الماطور تحمل مشهدًا كاملًا، وكأني أعيشه من جديد، لترسم لوحة وجدانية واحدة تحمل أكثر من معنى وأكثر من إحساس في آن واحد، فكل رائحة تحكي قصة تحفر في القلب أثرًا لا يُمحى.
فالدماغ ربط كل هذه المشاهد في شبكة واحدة من الذكريات كانت الرائحة سببا لاسترجاعها، فتجسيد الحواس ومنها الروائح في الأدب يساهم في إثراء النصوص الأدبية وإضافة أبعاد حسية وشعورية تفسح مجالًا للتفاعل بين القارئ والنَّص، فالروائح أداة قوية لتجسيد الشخصيات، واستحضار الذكريات، وتحديد الزمان والمكان وحمل معانٍ رمزية في الأدب.
الرائحة ليست مجرد حاسة عابرة، بل هي مستودع نابض لذكرياتكم الخاصة، تأملوا حياتكم، ولكن بروائحها، قلبوها كالصفحات، واربطوها بكل لحظة جميلة تنقش في الذاكرة، لتبقى حياتكم حية ملأى بالصور واللحظات الجميلة.
قد لا أستطيع العودة إلى تلك اللحظة، ولكن رائحة الماطور أعادتني إليها بكل ما تحملها من تفاصيل ولحظات.
** **
د. نورة بنت عبد الله بن إبراهيم العمر - أستاذ الأدب والنقد المساعد بجامعة الملك سعود
@nora_7055