لم يكن الحجر يومًا مادة صامتة، فمنذ الجاهلية إلى العصور الإسلامية المختلفة، ظلّ الحجر يحمل حكايات الإنسان وأسراره، حتى مشاعره وأمنياته، ألم تُكتشف من خلال ما نقش على الصخر حضارات بادت؟ ألم نعرف كيف كان يعيش إنسان ذلك الزمن من خلال تلك النقوش؟، تتعدد أساليب التعبير وتختلف عند البشر، فنجد أنّ ما يقال بعد الموت ربما لا يشبه ما قيل قبله.
ولأن الشعر كان ولا يزال مرفًا للأرواح التي تشتهي البوح رغم لذة الصمت، لا تتوقف القصيدة عند حدود الحياة؛ فثمة امتداد خفيّ لها في العالم الآخر، حيث يتكفّل الحجر بحمل ما لم يعد الجسد قادرًا على قوله، ولأنّ الموت يثير في الإنسان خوفًا سرمديًا، ويطرح أسئلة وجودية مهيبة، برزت الحاجة إلى التعبير عنها بوسائط شتى، منها الأشعار المنقوشة على شواهد القبور (tombstones poetry) فهذا اللون من التعبير يعدّ في جوهره مرثيةً موجزة ونبضًا وجدانيًا يحفظ للراحل أثرًا، ويمنح الأحياء وسيلة للتعبير عن حزنهم ووفائهم، فالشعر هنا لا يُعلّق للقراءة الجمالية فحسب، بل يُنقش على الحجر ليُقاوم النسيان.
من هنا تبرز أهمية العمل الذي قدّمه البروفيسور الجزائري «علاوة كوسة» في معجم الكتابات والنقوش الشعرية العربية على شواهد القبور والأضرحة من كتابه الموسوم: «الأنساق المقنعة في الشعر الشاهدي العربي»، باعتباره جهدًا يوثق مكوّنًا إبداعيًا ظلّ مهمشًا في ذاكرة
الثقافة العربية، وتجربة رائدة في نقد هذا التراث المنسي، الذي طالما ظلّ خارج التصنيف الأدبي والنقدي رغم عمقه المكاني والزماني في الحضارة العربية، فالمعجم يوثّق نماذج وفيرة من هذه الكتابات، ويعيد الاعتبار لقيمتها الثقافية والرمزية، حيث تتنوّع صور الكتابة على شواهد القبور وتتباين دوافعها، كما يختلف مستوى الوعي المؤطر لها خطابًا ومرجعًا، فالعربي ينقش على شاهد القبر كلماتٍ تحرس الذكرى، وتواجه النسيان بالشعر، حين ينقل خطابه من فضاء الكتابة المألوف على صفحات الدواوين والقصائد إلى فضاء اللوح الحجري أو الخشبي على القبر، إنما يسعى إلى تقديم صورة مكثفة عن الذات الفقيدة، وإعلان موقف من الحياة والمجتمع ومن الموت ذاته، وهكذا تصبح الكتابة الشاهدية خطابًا بلاغيًا موجزًا، يحمل خلاصة هوية الراحل في آخر محطات وجوده.
هذا المعجم الذي بين أيدينا لا يجمع نصوصًا حجرية وحسب، بل يفتح نافذة على وعي الإنسان العربي بالموت، وكيف حاول عبر التاريخ أن يواجه الغياب بالكلمة؛ فالنقوش التي تتوزع على قبور علماء وأولياء وشعراء وأشخاص عاديين، تعبّر عن رغبة قديمة في حفظ الاسم، وتمديد أثر الإنسان في الزمن، عبر شعر موجز ومكثّف يحمل أحيانًا حكمة، وأحيانًا رثاءً للذات أو رجاءً في الرحمة.
تتنوّع هذه النصوص ما بين الصياغات الدينية المألوفة والعبارات الشعرية التي تُظهر الحسّ الجمالي العربي حتى في مقام الفناء، وتكشف أيضًا عن تطور الذوق الشعري في فترات مختلفة، من البلاغة الكلاسيكية إلى التعبير العاطفي الشعبي البسيط، مما يجعل هذه النقوش وثيقة أدبية واجتماعية في آن واحد.
يمثّل عمل كوسة إضافة نوعية في مجال الدراسات الأدبية الأنثروبولوجية، إذ لم يكتفِ بالتوثيق بل قدّم قراءة تضع هذه النصوص في سياقاتها التاريخية والثقافية، فالقصيدة على القبر ليست مجرد زينة لغوية، بل خطاب موجّه إلى العابرين؛ تذكير بالمصير المشترك، أو طلب للدعاء، أو صيحة جمال في وجه العدم، وإن استعادة هذا التراث المنقوش هو استعادة لصوت الإنسان الأخير؛ ذاك الصوت الذي نقشه بيده أو أوصى به قبل الرحيل، ليشهد على حقيقة أن الشعر ظلّ دائمًا دفاعًا أخيرًا عن الوجود.
إننا حين نقرأ وبعمق الكتابات والنقوش الشعرية على شواهد القبور، نلاحظ وجود الرغبة في الحياة عند بعض الشعراء في حين نجد الزهد في الحياة والشوق للآخرة عند البعض الآخر، ثم «إن حرص الشعراء على كتابة نصوص الرثاء بالشعر على قبورهم يرد إلى حبهم لذواتِهم، واعتزازهم بأنفسهم، وهو اعتزاز بالحياة في آن، إنهم في ذلك يعبّرون عن رفض خفي وغير مباشر لمغادرتِها، وبالتالي فهم يعبّرون عن رغبتهم في البقاء على الأرض وبين الناس (...) إنها رغبة في تحقيق الخلود في هذه الصورة المعنوية» سواء من الفاقد أو المفقود، واستحالة الشعر بعد فقد المحبوب اعتراف بوعاء ٍّإلهامي لها ومبعث شعري.
وقد استعرض الكاتب علاوة كوسة في هذا العمل الجهود البحثية السابقة في موضوع الكتابات والنقوش الشعرية العربية على شواهد القبور والأضرحة، غير مدّع الإلمام الشامل بتلك الدراسات السابقة، المؤسسة للفعل النقدي لهذا الإرث الشعري الشاهدي المهجور، ما نلاحظ من خلال جمعه لمادة بحثه بأن هناك كمّا ضئيلًا جدًا من هذه الدراسات، وندرة المقاربات النقدية المحايثة للمتن الشعري الشاهدي (كتابًة ونقشًا).
إن الكتابات الشاهدية الشعرية هي بمثابة خطاب لمجموعة أنساق يحمل الكثير من المعاني والتيمات في عمقه، فنجد من خلاله تيمة الألم، تيمة الحزن، تيمة الموت تيمة الخلود، تيمة الفقد، وغيرها كلها متجسّدة في هذه الأبيات الشعرية التي إما كتبها الشاعر قبل وفاته ووضعت على شاهد قبره، أو كتبها شاعر آخر لروح ميت ووضعت على شاهد قبر الميت.
إن هذا المعجم والمقدر بحوالي: سبعمائة شاهد شعري - شاهدي - يعتبر عملًا مهمًا مقدّمًا للنقاد والباحثين، لعلّهم يدخلون مدنَه ومتونَه من أبواب قرائية متفرقة وبمناهج نقدية شتّى، لأنه إضافة حسنة للمكتبة العربية، والإسلامية.
** **
د. الريم حجوج - أكاديمية جزائرية