الذائقة الأدبية ليست معطى طبيعيًا، بل هي بناء ثقافي تُشكّله أنظمة التعليم المختلفة، والمؤسسات النقدية العاملة في حقول النقد الواسعة، ووسائل الإعلام بما فيها من إمكانات على توسيع قاعدة الفعل وردّ الفعل، فضلا عن طبيعة التلقي الاجتماعي في مساحات التفاعل التي تتطلّب من الإنسان موقفا تجاه الأشياء يتمثّل أخيرا في فضاء التلقي.
تفترض النظريات الجمالية بعامّة أن هناك معايير جمالية تستند إليها النخبة الثقافية في تقييم العمل الأدبي (أصالة الأسلوب، تعقيد البنية، عمق الموضوع). في المقابل، تميل الذائقة الجماهيرية إلى تفضيل ما هو سهل، مُشوّق، وسريع التناول، مدفوعة بعوامل السوق والتسويق والبيئة الثقافية العامة التي لا تتطلّب من المتلقي كثيرا من الضوابط والإجراءات، فالفضاء الشعبي مهيمن على حركة التداول.
لكن المفارقة هنا أن الذائقة الجماهيرية لم تعد هامشًا في المشهد الأدبي، بل أصبحت فاعلًا مركزيًا يفرض شروطه، لأن فضاء التلقي الآن يقاس بحجم التلقي ومساحته وتمثيله من طرف أكبر عدد من الجمهور، بحيث لم يعد للنخبة ذلك الدور القائد في حركة التمثيل الفكري والثقافي والأدبي الحيوي، وصارت الذائقة الشعبية تفرض قوانينها وأعرافها على سوق العمل في فضاء التلقي، وتتسيّد معظم حركة الظواهر على مختلف المستويات بما يجعلها النموذج أو (الستايل) الذي يغلق الأفق أمام ما يختلف معه.
وهذا يقودنا إلى تساؤل مهم في هذا السياق وهو: هل فقد النقد سلطته في ضبط إيقاع الذائقة؟ أم أن الذائقة صارت تفرض على النقد مراجعة أدواته؟ لا شك في أن مفهوم النقد تعرّض لتغيير في الإحاطة في مجمل العمليات الخاصة بتلقي العمل الأدبي، ففي ضوء مثل هذه الحالة وحالات ثقافية أخرى مشابهة لم يعد للعقل ذلك الدور الأساسي في حراك التلقي.
هل يمكن في هذا السياق الحديث عن انكسار السلطة الرمزية للنقد، وتقدّم الجمهور بوصفه سلطة جديدة على النص، أم الحديث عن حصول نوع من الانفصال القسري بين هيبة النقد بتاريخه الطويل والعميق لصالح رؤية جماهيرية لا تدين بالولاء للمعرفة.
إنّ أية ذائقة بلا نقد جوهري وحقيقي وأصيل وفاعل ونافع يمكن أن تنزلق نحو الابتذال والابتعاد عن فضاء المعرفة، ونقد بلا ذائقة يتحول إلى نوع من الوهم. هذه المساحات ضرورية لأنها تمنح الأدب والنقد معًا فرصة للعيش الحرّ الطبيعي المنتِج، لا في صمت الأوراق، بل في صوت الجمهور، وفي جدل الأسئلة.
نقارب في هذا المحور صورة المثقف بين الوعي والانتماء المؤسسي؛ ونقف عند المفارقة المؤلمة في علاقة المثقف بالمؤسسة من خلال مجموعة من المحاور الأساسية. يوضح الدكتور عبد الله الغذامي في هذا السياق بمرارة ووعي حاد عن كثير من مشكلات الأمة المعرفية من باب النقد الحرّ العابر للحدود، لكونه يحوّل التجربة إلى خطاب نقدي على الذات لا يختبئ خلف المثاليات والأنساق الغامضة، وهي تتستر خلف الجمالي لتغيّب الثقافي وتبدده.
إن خطاب الدكتور عبد الله الغذامي بوصفه خطابًا تفكيكيًا للسلطة الثقافية يقوم على منطلقات نظرية حددها في فضاء النقد الثقافي، ولا يمكننا في هذا السبيل أن نقرأ الخطاب من دون أن نستدعي مشروعه في «النقد الثقافي»؛ الذي تأسس على أنقاض البلاغة العربية التقليدية والنقد الأدبي في أطروحاته الجمالية الصرف، وانفتح على المنجز الغربي (بودريار، فوكو، دريدا) لكنه لم يتقوقع فيه ويضحي برؤيته الخاصة من أجله. لم يكن الدكتور عبد الله الغذامي مقلدًا ولا حاملا لرؤية نقدية غيرية، بل مارس توطينًا تأويليًا للمفاهيم النابعة من رؤيته الشخصية التي تشكّلت بعد خبرة طويلة في مجال العمل النقدي بكل أشكاله.
منذ كتابه المهم «المرأة واللغة» إلى مشروعه الأوسع في «النقد الثقافي»، كان يسعى إلى كشف التحيزات المضمرة داخل الخطاب العربي، ولا سيما في الشعر واللغة والهوية. سعى إلى كشف المسكوت عنه، ومساءلة الأنساق التي تُنتج المعنى وتمنحه سلطة التكرار بوعي نقدي استثنائي أثبت جدارته داخل الفضاء النقدي.
أن الثقافة العربية الحديثة لم تنتج مثقفًا عضويًا بالمعنى الغرامشي، لكون المثقف بوصفه ذاتًا مأزومة لم تتح له فرصة الانتماء إلى حالة النقد الذاتي، لذا فإن هذه الحالة القاتمة أنتجت مثقفًا مؤسسيًا يعيش أزمة بين الخطاب والممارسة، فهو يكتب باسم الحرية، لكنه يمارس التماهي مع المرجعيات السلطوية ويستجيب لضغوطها وإكراهاتها وإلزاماتها، بما يعني أن المثقف ينبغي أن يكون جزءا من الشارع الثقافي في معرفة ما يدور فعلا، ليكون جزءا لا يتجزأ منه ويمارس فعله الثقافي انطلاقة من حيوية هذا الشارع.
وفي المحور الأخير من المناظرة ، بدأ الدكتور الغذامي بالانتقال من التبشير بالنقد الثقافي إلى نقد النقد ذاته، وكأنه يقول إن المشروع الثقافي لا يكتمل، بل يتجدد بالسؤال، والتراجع، والمراجعة. وهذا ما يحوّله من ناقد لمظاهر الثقافة إلى ناقد لذاته كفاعل ثقافي حرّ وحيوي ومتطور..
وهذه هي شجاعة المثقف الحقيقي: أن يعرّي ذاته حين يجد أن ثمة أشياء في مشروعه بحاجة إلى معالجة.
وهذه محاولة تحفّز التفكير، وتُقلق مسار الطمأنينة، وتدعو إلى مواجهة الواقع الثقافي بجذرية ومسؤولية ووعي وحزم ورؤية واسعة غير منغلقة. نحن بحاجة إلى خطاب لا يغازل السوق كي يقع تحت وطأته، ولا يخطب ودّ اللحظة الراهنة ويستجيب لها بلا أسئلة، بل يستعيد للثقافة دورها الفاعل والأساسي بوصفها فعلاً إنسانيًا يحرّر لا يقيّد، يوقظ لا يخدّر، ويزرع في الذائقة شغفًا بالجمال. لأننا نحن أمام تحوّلٍ كبير في المشهد الثقافي، بل الإنساني بعامة، تحوّلٌ لا تُمليه حركة الإبداع وحدها، بل تتداخل فيه وسائل الإعلام.
** **
- د. رائدة العامري