يعد العنوان أول تجليات العمل الأدبي، وهو يتجاوز الوظيفة الأساسية التي هي التحديد والتسمية إلى فتح أفق توقع القارئ الذي ينجز دوره في عملية إعادة إنتاج النص وتأويله، ومن العنوان تبدأ دلالة النص وامتداداته وإشاراته؛ حيث يحيل إلى متن النص، فيكشف عن طبيعته، ويفك غموضه.
وفي الديوان الحادي عشر للشاعر محمد إبراهيم يعقوب الصادر عن دار رشم في العام 2025، يختار الشاعر عنوانًا لافتًا (لأنها الغابة كان ينتظر نهرًا أو نيزكًا)، حيث يشعر القارئ ضمنيًا بسؤال الظل؛ لماذا؟ لتأتي الإجابة بـ: لأنها؛ التي تربط جملة السبب بجملة النتيجة لبيان العلة، والجملة في السياق التراتبي، هي: كان ينتظر نهرًا أو نيزكًا؛ لأنها الغابة، غير أن أهمية (الغابة) اقتضت تغيير الترتيب الأصلي للكلمات في الجملة.
وإيمانًا بأن العنوان يختزل التجربة الإبداعية والرؤية الفكرية في عبور أولي للنص؛ وللإمساك بدلالاته؛ ووظائفه، وهو في أعمال محمد إبراهيم يعقوب يعد جزءًا أساسيًا من النص، فيمكن لهذه المفردات الثلاثة في عنونة النص: (الغابة – النهر-النيزك) أن تمثل إضاءة على الديوان؛ وتملأ ثغرات النص، وهو إضافة إلى ذلك حقل لغوي جديد ينتخبه الشاعر بعناية للولوج إلى بنية هذا الديوان، الذي اختار لأقسامه مفردة (كتاب) فجاءت أقسام الديوان في خمسة كتب، هي:
1-كتاب الطبائع: ويحتوي على خمس قصائد عنونت بـ: قائمة خاصة بي، ومدونة الأحوال، والكائن في الظل، وأسئلة زجاجية، وسهو اختياري.
2-كتاب الذوق: ويحتوي على تسع قصائد، هي: أدوات خطرة، وهذا ما نسعى إليه، ومدائح العرافين، والقواميس تخطئ أحيانا، وأيام الواقع الخشن، ومتعلقات كائن آخر، وبعض من منطقية الحب، ومهدئات شخصية، وكأن نفكر في ذلك فحسب.
3-كتاب التعليلات الناقصة: وفيه سبع قصائد، هي: حجج واهية، وفي مرآته واحدًا وهائلًا، والأمر أكثر تعقيدًا من ذلك، وعبء الكائنات، وهوامش على كتاب دليل الاستعمال، وملكيات في العراء، وخشية أن تسمع في مرآتك شيئًا ما.
5-كتاب النفس: وفيه خمس قصائد، وهي: شهوات مؤجلة، وفن لا يعالج، وتجربة خرق السرية، ومنسك الثغرات، وفي امتحان ما لا يسمى، وإيقاع غموض ما.
6-كتاب النبوءة: وهو الكتاب الأخير وفيه قصيدة واحدة عنونت بـ: عن بلاغيات الإلكترون الحر.
وتصف هذه الانتقالات المتتابعة بدءًا من الطبائع وصولًا إلى النبوءة حالة التحول وفهم الذات التي تتدرج في مفاهيم نصية ومجازية فالمفاهيم عرضة للتغير بفعل العوامل المختلفة، وكلما زاد وعي العقل البشري أصبح أكثر اتصالًا بالكون وأقرب إلى النبوءة.
وبالعودة إلى المفردات التي تشكل عنوان الديوان (الغابة – النهر-النيزك)، فهي مكونات تتعلق بالطبيعة وظواهرها، وقد جرت العادة عند بعض الشعراء، وحدث هذا مع محمد إبراهيم يعقوب أن يكون عنوان الديوان هو عنوان إحدى القصائد أو عنوانًا يتم تقسيم تفاصيله على أقسام الديوان، غير أن المفارقة في هذا العنوان أنه ليس مأخوذًا من عناوين قصائد الديوان، بل إن مفردات هذا العنوان ضئيلة الحضور في متن الديوان، فمفردة النهر ترد أربع مرات فقط، ويبدأ ظهورها حين يقول:» لن يعود النهر عن هذيانه»، وتختم بها الصفحات الأخيرة، وهو يقول: «لن نعود إلى النهر»، وبين البداية والنهاية يشكل النهر مصدرًا للألم: « أذى يتكرر عن قصد.. حذر من جار، نهر سائل»، « لا نهر في جنة الله للعاشقين المساكين».
ويماثل هذا الحضور الضئيل مفردة النيازك التي ترد خمس مرات في ديوان تجاوز ثلاثمائة صفحة، منها:» لم أحتمل الميل إلى جهة، في عقلي بضع نيازك»، و» كأن النيازك في رأسه هواه الذي اعتاد أو صدقا».
وبالوقوف على مفردة الغابة تحديدًا فتكمن المفارقة في تصدرها عنوان الديوان بوصفها محل الاهتمام وغيابها المادي في متنه، فلا ترد مطلقًا في نصوص الديوان أو عتباته، وهذا هو المدخل لهذه المقاربة، فالدلالة اللغوية للغابة تشير إلى أنها: الوطأة من الأرض التي دونها شرفة، وهي الوهدة، وهي الأجمة التي طالت، ولها أطراف مرتفعة باسقة، و ذات شجر متكاثف؛ وقيل سميت الغابة بهذا الاسم؛ لأنها تغيّب ما فيها، والغاب الآجام، وجماعة الشجر؛ لأنه مأخوذ من الغيابة، و هذه الدلالة هي امتداد لدلالة الأصل اللغوي غ. ي. ب، لأن الغيب: هو الشك، وكل ما غاب عنك فهو غيب.
ويشيع في الدلالة الاصطلاحية للغابة، أنها مساحة واسعة من الأرض، تغطي الأشجار معظمها، ومنها الغابات النفضية التي تسقط أوراقها في وقت ما من السنة، والغابات الاستوائية، والغابات الدائمة الخضرة، والغابات الرواقية، والغابات عريضة الأوراق، والغابات الموسمية.
وتحضر بلاغة استعمال الغابة في فتحها باب التأويل وتأرجح الدلالة التي تتعدى مكانتها المكانية الأولية وتتجاوزها إلى الدلالة الشعرية، وانطلاقًا من الدلالة اللغوية إلى الدلالة المجازية فالغابة المظلمة هي رمز المرور إلى عالم الذات الخفية، التي يزداد خفاؤها مع اشتعال جذوة الصراع بين تدفق الأنهار وانفجارات النيازك وانصهاراتها الكارثية؛ من موقع ترابط المتناقضات وتفاعلها، وتبرز في رفضها الثنائية التي تسمح بالانشطار بين القوة والضعف والظلام والنور، وفيها تتجسد الوحدة الكونية، هذه الوحدة التأملية التي تلقي الضوء على الجزء الخفي من الذات، وهو الجزء الذي يظل الشاعر يبحث عنه، ذاته التي تتغير، فبرغم المقدمات المعرفية عن الذات التي تمثلت في الكتب التي عرّفت بالطبع والذوق والنفس، وهو الجزء المتشكل من الذات، وهو ما يمهد للحظة تجلي المعرفة الشخصية التالية بالذات، والوصول إلى المناطق غير المستكشفة من الجزء المجهول، بحثًا عن الملاذ للخلاص من الأذى، والانعتاق من علاقات الإنسانية، والتحرر من القوانين والقيود لإثارة مكامن القوة الذاتية وتحقيق تفرد الذات.
وتتشكل مفردة الغابة في عنوان الديوان من ثلاثة أبعاد، وهي دلالتها الأولية على المكان، حضورها المجازي في الشعر، حمولاتها الدلالية على الذات، وهي أبعاد ممتزجة متداخلة تطرح بحضورها بهذا الوصف تساؤلًا عن حقيقتها وقيمتها ودورها في التشكيل الشعري والبناء الفني؛ ولاسيما وهي تتعالق منذ العنوان مع لفظين آخرين ينتميان إلى ذات الحقل (الكوني الطبيعي) وبذات المستوى من انحسار حضورها اللفظي في الديوان، ما يجعل هذا الاتكاء المركزي عليها في العنوان تقدمة لعلاقة وثيقة لهذا الامتزاج بين العالمين الشعري والكوني، فلهذه المفردات التي توازي في قوتها بقية نصوص الديوان معان ثابتة وقارة في ذات الشاعر ينطلق منها في حوار الذات مع الكون والحياة والإنسان، فهذه الغابة بغموضها وصمتها وسكونها تخفي جملة من المعاني المتناقضة والمرتبطة بالخوف والعزلة والشراسة والسكون والانهمار والعطاء، لكن كينونتها الحقيقية غير معلومة ولا يمكن الجزم بكنهها.
وتكشف الغابة عن هوية وانتماء الشاعر لهذا الكون بصورة أوسع تخرج عن النطاق المكاني والجغرافي، إلى أبعد من ذلك إلى المعاني النفسية التي تكتنز بها الذات، التي تمر بمرحلة الانتظار في سياق عملية البحث والاكتشاف؛ حيث ثمة أفق انتظار يتماهى بين الرهبة والرغبة، وهذا الترقب يخلق فضولًا إلى المعرفة، التي تحتضها الغابة غير المكتشفة، والتي تتعلق بطبيعة الذات الشاعرة التي تكشف عن لعبة الاحتمالات، وكل احتمال يمثل حالا من حالات الإمكان ووقوع واحد من الاحتمالات، فالغابة التي تحضر بشكل حصري في العنوان تؤسس للنص كاملًا؛ تلقي بظلالها وإيحاءاتها وارتباطاتها الدلالية والمجازية في علاقتها الاحتمالية المبدئية بين (النهر والنيزك) بين العلو والسقوط، في استمرار لهذه العلاقة المتناقضة المجتمعة والمتأرجحة بين الأنهار والنيازك، فهي إما أن تكون علاقة مدمرة غير منتظمة كارثية، أو أن تكون داعمة تكاملية، إلا أن اتحاد الغابة مع أحدهما هو اتحاد مع طرف من أطراف الكون إما مع النهر والعالم السفلي، أو مع النيزك وبعده السماوي، وهو اتحاد أحادي لا يمكن له أن يجمع القطبين المتنافرين.
ويحضر ظلال الغابة في الذات المخبأة بين القصائد التي يحملها كل كتاب من الكتب الخمسة في الديوان، فالشاعر يبحث عن ذاته الغائبة في ضوء ما عرفه من ذاته الحاضرة، يتسلسل في هذا الكشف عن الذات، وكأنه يسلم جزءًا من الذات إلى الجزء الآخر يستحضر هذه المعرفة ليلج بها إلى المنظومة الكونية ليتحد معها ويكتمل بها، هذه الذات الحاضرة في ذهن الشاعر والغائبة التي يحجبها الأفق في موقع ما من الكون؛ حيث تظل هذه الذات في رحلة بحث عما يتم نقصها مما يماثلها في العالم الكوني الكبير.
ثمة بعد زمني تحمله الغابة أيضًا؛ حيث تقف زمنيًا بين موقفين الماضي والمستقبل في تعلقها بـين (كان) و (ينتظر)، فالدلالة الزمنية في الارتداد إلى الماضي تتعلق بكينونة الغابة، وجزء المعرفة السابق بها، فيما يتعلق انتظار لحظات المستقبل بـ(ينتظر) التي هي مصدر الاحتمالات بين السقوط والاصطدام، وبين الماء والنار، وبسبب هذين الموقفين يقع الشاعر في محيط الغربة الزمنية والمكانية التي تشعل لحظات الانتظار بالتأمل والتفكر مع ما تحمله تلك اللحظات من أعباء الألم والمعاناة والترقب، التي تكشف عن ضعف الشاعر واستسلامه، فهي عميقة وقاتلة وثقيلة.
ختامًا يتبدّى هذا العنوان بوصفه رحلة عبورٍ من تخوم الإدراك الأولى إلى مناطق أكثر عُمقًا في معرفة الذات، رحلة لا تتأسس على الوضوح بقدر ما تتغذى على الغموض والاحتمال، ففي فضاء تتقاطع فيه الصور الكونية مع التجربة الشعورية، يتخذ الشاعر من الغابة رمزًا لباطن الإنسان، ومن النهر والنيزك تمثيلًا لحركتين متعارضتين تتجاذبان الكينونة بين الانسياق والتفجّر، بين الانحدار والاشتعال.
فليست الغابة مكانًا فحسب، بل هي مجاز للذات وهي تتكشّف لنفسها عبر طبقات من الخفاء والمكابدة والرغبة في الفهم، حيث يصبح الشعر أداة للدخول إلى تلك المنطقة المعلّقة بين أن تكون ما هي عليه، وأن نصير ما تبحث عنه.
وهكذا يفتح العنوان مسارًا للتساؤل والتأمل، لإعادة فعل الإنتاج بقراءة جديدة تنطلق من دلالة العنوان إلى البنية الداخلية للديوان، بعد الوعي بمفهوم العتبة النصية الأولى، وإدراك العلاقة بينه وبين تحولات الذات.
** **
د.دلال بنت بندر المالكي - أديبة وأكاديمية