اقترح الباحث الدكتور مصطفى رجوان في كتابه «حبكات وشخصيات: المقاربة البلاغية الحجاجية للرواية العربية»، الصادر حديثا عن دار كنوز المعرفة بعمان، ثلاثة مداخل ممكنة لتحليل الرواية من منظور حجاجي هي: الحجاج في الرواية، والحجاج بالرواية، والبعد الحجاجي. في هذا العرض سأتحدث عن مدخل الحجاج في الرواية، ابتغاء الفائدة، ولكون الكتاب ذا أفكار واسعة ومتشعبة لا يمكن أن أحيطها بها في هذا العرض القصير.
يختص مدخل الحجاج في الرواية بتتبع المواقف الحجاجية في الرواية ودراستها من منظور بلاغيّ حجاجيّ. يشيرُ الباحث إلى أنّ الأنماط الأخرى في الرواية، مثل الوصف والحوار، قد نالت حظّاً وفيراً من الدراسة واهتماماً من الباحثين والنقاد، لكنّ الحجاج قد ظلّ مغيباً لأسباب مرتبطة بأفول البلاغة في أوروبا، لكنّ الباحث رجوان وظف مراجع أنجلوساكسونية، ما يعني أن النقد العربيّ لم يهتم بالحجاج لارتباطه التاريخي بالسياق الفرنكوفوني.
يؤكد الباحث مصطفى رجوان أنّ دراسة الحجاج في الرواية ليسَ اختياراً شخصيّاً، أو رغبة منه في إدخاله عالم الرواية ونقدها لمجرّد الحضور القويّ للمقاربة البلاغية الحجاجية في الساحة النقدية العربية في اللحظة الراهنة، بل إن الحجاج جزءٌ لا يتجزأ من نسيج الرواية العربية، وهو حاضرٌ فيها بأشكال متفاوتة، ومن ثمّ، فدراسته ليست ترفاً نقديّا، بل ضرورة وتوسيع لمعرفتنا بالرواية.
مع ذلك، فإن الباحث مصطفى رجوان قد وضع المقاربة البلاغية في اختبار يتمثّل في سؤال مدى قدرة المقاربة البلاغية الحجاجية على تعميق معرفتنا بالرواية، والكشف عن إمكاناتها التخييلية والجمالية والفكرية.
إن مجرّد عقد مجاورة بين الحجاج والرواية في الحيز الذهني يخلُق مجموعة من الإشكالات، فالحجاج لصيقٌ بالخطابات التداوُلية مثل الخطبة والمرافعة والمناظرة، بينما الرواية جنسٌ تخييلي غير مستقرّ ودائم التحوّل والتجريب، وفيه شبكةٌ تواصلية متعددة وغير أحادية عكس الأجناس التداولية مثل الخطبة والمقال الصحافي. إن أهداف كل من الرواية والحجاج وطبيعتهما يسيران، ظاهريا، في مسارين غير متقاطعين.
تتبع الباحث علاقة السرد والحجاج في مظانها الفلسفية والنقدية، ابتداء من أفلاطون وأرسطو وصولاً إلى السرديات المعاصرة البنيوية في فرنسا والبلاغية في الولايات المتحدة الأمريكية. وفحص مفهوم الحجاج واختار منه ما يلائم الرواية ذات الطبيعة التخييلية. كما قدم الباحث دراسة مستفيضة للتواصل السردي والتواصل الحجاجي ليبين كيفية اشتغال التواصل الحجاجي في الرواية ذات الطبيعة المركبة.
كما انطلق الباحث من إطار كبير هو المقاربة البلاغية للرواية، وقدم جهداً كبيراً في توضيح معالم هذه المقاربة معتمداً أصولها الفلسفية والنقدية بعيداً عن اختراع لقاء وهمي واهٍ بينهما كما تفعل مجموعةٌ من الدراسات المعاصرة التي تنتسب إلى البلاغة. وخلص إلى أن المقاربة البلاغية مهتمة بدراسة التقنيات والموارد التي يستعملها المؤلّف للتأثير في قارئه الضمني تخييلياً وجماليّاً وفكرياً. من بين هذه الموارد الحجاجُ الذي يوظّفه المؤلّف بوعي لصناعة عالمه الروائي تخييلاً وبناءً وفكراً.
حلل الباحث، من خلال المقاربة البلاغية، الحجاج الصريح في نسيج الرواية في ضوء التواصُل المتعدّد والمركّب في الرواية، وتبنى منهجاً ينطلق من الداخل إلى الخارج؛ فنظر في اللحظة الأولى في الحجاج الصريح في نسيج الرواية، والنّابع من الذوات التّخييلية، ثمّ في اللحظة الثانية في ضوء وقوعه في تواصل أكبر بين المؤلّف وقارئه الضّمني. أي إن الحجاج، وإن كان يجري في مواقف تخييلية بين الشخصيات والسارد والمسرود له، إلا أن تحليله يجبُ ألا يتوقف هنا، فهذا التواصُل ليسَ إلا جزءاً من التواصل الأعم والفعليّ بين المؤلف وقارئه الضمنيّ، الذي يتغيا منه غايات ليس دائماً إقناع القارئ بما هو مطروح في الموقف التخييلي، فقد يتغيا غايات تخييلية أو جمالية، مثل انغماس القارئ في العالم التخييلي وإقناعه به أو استفزازه أو التخفيف من وطأة السرد.
كما لاحظ الباحث الحجج المستعملة وحدد أنواعها وربطها بالذوات التّخييلية وسياقات الرواية المتنوّعة، كما تساءلُ عن السبب وراء استعمال المؤلّف أنواع الحجج الموظّفة في السياق النصّيّ وعن علاقتها بالقارئ الضّمني، أي إنّ عمله كان منصبّاً على تأويل الحجاج بدل الاقتصار على مجرّد وصفه باقتطاعه من الرواية وسياقاتها المتعددة.
وقد اشتغل الباحث على مجموعة من الروايات أبان من خلال تحليلها عن دور الحجاج في التخييل الروائي وبنائه وإكسابه أبعاداً فكرية. فحلّل بداية رواية «القاهرة الجديدة» لنجيب محفوظ، وقد أبان التحليل عن تناغم الحجاج مع عالمي القيم الأصيلة والانتهازية، واستعمال نجيب محفوظ الحجا ج لتصوير انحطاط القيم في عالم محجوب الدايم الانتهازي من خلال استعمال المغالطات والحجج النفعية وفشل الباطوس، بينما ظلّ عالم القيم الأصيلة الذي يمثّله علي طه إلى الحجج المنطقية والقيم والباطوس. وكشف الباحث مصطفى رجوان عن حضور الحجاج في مواقف من الرواية البيكارسكية «المرأة والوردة» للكاتب المغربي محمد زفزاف، فقد كانت الشخصيات تتحاجج بخصوص القيم البكارسكية الفاسدة والقيم الأصيلة، مبرزا دور الحجاج الكبير في التأثير على أفعال الشخصيات ومساراتها، فرحلة البطل محمد كانت انطلاقاً من موقف حجاجيّ أقنعه فيه محدثه «جو» بضرورة الرحيل واعتناق البيكارسكية، وجسدت المواقف الحجاجية صراعه الفكري في العالم البيكارسكي، بينما أعاده إلى عالمه الأصيل موقفٌ حجاجيّ. كما كشف الباحث في سياق تحليل رواية «شرق المتوسط» لعبد الرحمن منيف عن الدور الأساس للحجاج في بناء الرواية، فقد كانَ الساردان رجب إسماعيل وأخته أنيسة يحاججان مدافعين عن صورتهما ومستحضرين الأحداث التي تدعمُ هذا الحجاج عن طريق تقنية الاسترجاع. إنّ القارئ لتحليل هذه الروايات يدرك أن القراءة النقدية كانت تغفل مكوناً مهماً من مكونات بناء النص الروائي وبناء عالمه التخييلي، هو الحجاج، ودوره في إثارة فكر القارئ وتحريك قيمه. ويدرك أن المقاربة البلاغية الحجاجية يمكن أن تجدد نظرتنا للنصوص الروائية سواء الكلاسيكية أو الجديدة.
إن كتاب «حبكات وشخصيات» للباحث مصطفى رجوان عملٌ نقديّ من الدراسات البلاغية القليلة التي استطاعت أن تقدم إضافة سواءٌ لدراسات الرواية أو المقاربة البلاغية الحجاجية. فقد استطاع الباحث استغلال المقاربة البلاغية الحجاجية في خدمة الرواية، وأضاء جوانب كثيرة فيها من مدخل جديد شديد الحساسية في رحلة بحثية مليئة بالتحديات والمغامرة، واستطاع أن ينزاح عن سمت الدراسات النمطية سواءٌ في الحجاج أو الرواية.
جديرٌ بالذكر أن هذا الكتاب هو الرابع في سلسلة قوية وواعدة، هي سلسلة السرديات البلاغية، وقد صدرت قبله دراسات متعالقة مع هذا العمل: دراسة عادل المجداوي في بلاغة التواصل السردي في البلاغة العربية، والكتاب الجماعي المهم عن الحجاج والتواصل السردي، ثم الكتاب الجماعي في السرديات البيئية.
** **
- عمر محضار