ينبني الديوان الشعري «عمرٌ يزمّله القصيد» على إطار موضوعي محكم يظلّ ثابتًا رغم تعدد نصوصه ومفارقاتها الشكلية، إذ تتكامل القصائد في بناء وحدة شعرية كلية تضيء مسار الذات الشاعرة عبر مراحل الصيرورة الخلقية والرحيل والحنين والعودة الطفولية، ويتجلّى هذا الإطار أولًا في قصيدة «فاتحة» التي تحتضن الطين رمزًا للأصل الجامد والأنثروبولوجي، فتبدأ بها رحلة التشكيل الشعري بإيقاعٍ داخليٍّ مشدود إلى وحدة (المادة - الكلمة)، حيث يتعانق الحرف والوميض في لحظة ولادة.
إنّ توظيف الضمائر المتحركة والمفردات المشحونة بالرمزية (كالطين والنور والدمع) لا يكتفي بإعلان ميلاد النصّ فحسب، بل يرسم أيضًا خريطة الوعي الأولى التي تنطلق منها الذات، مقدمةً إياه إلى مصافّ اللغة الجامحة التي تكسر قيود الصمت وتفضح فجوة الزمن بين «ما كان» و» ما يصبح».
يؤسّس الانتقال في قصيدة «فاتحة أخرى» امتدادًا ذاتيًا وجماليًا يتقاطع مع البنية الأولى عبر تكرار المفردة الجوهرية نفسها، غير أنّ النصّ الثاني يستدعي ازديادًا في عدد الدمعات ورنينها، ليمثل الوضع الشعري مساحةً للتردد بين التأسيس والاشتباك مع الماضي الأليم. تتمازج هنا الصور الرمزية مع انزياحات نحوية تخلق وقفات متقطعة داخل الجملة، فتنبثق لحظات تأملية تتراكم عليها مفاعيل الذكرى، كأن القصيدة نفسها تُولَد من جديد في كل سطرٍ يُضاف.
وعند مطلع قصيدة «رحيل» يتوسع الإطار الموضوعي ليدخل بُعدًا جغرافيًا جديدًا، منفتحًا على خارطة الأرض وحروفها الموزعة بين مدنٍ ووِجاهات. لا ينقلب الشعر هنا إلى تأريخٍ ساكن، بل يظل فعلًا حركياً يتقاطعه مع حرف الشاعر الذي يسجل أسماء (سلمى وأجا وبرزان) كدُرَرٍ تقوم مقام تواقيع زمنية.
تكتسب القصيدة وحدةً حقلية بفضل إيقاعٍ صوتيٍّ مترابط ينبع من تكرار حروف ساكنة ومعانٍ متقاربة، فيُنتج دفقًا نصيًا يقرّب بين الذات ومحيطها الأسفلتيّ والطينيّ. ثم تتوالى الوقفات المنحنية على مسافةٍ بين وجود الذات ومخاطبة المكان، فتتداخل أبعاد «الرحيل» مع دفق الشعور بالانفصال الذي لا يجترح الانقطاع التام، بل يؤسس لتواصل غائب حزين لا يزول إلا بمحطة القصيدة التالية.
وفي «موال جاهلي» يتخذ الإطار الموضوعي بعدًا ثقافيًا تراثيًا يستقي مادته من ديوان القبيلة ورموزها الأولى. هنا يُعاد توظيف صور النوق والشيخ والقبائل بوصفها عناصر لتكثيف الإحساس بالاغتراب داخل حاضنة تاريخية قائمة.
يقف الشعر على حافة الاستلهام القديم، لكنه يقطع على نفسه عهدًا بتنقيص بريق البطولات الجاهلية واستدعاء شظايا الهوية التي ما عادت تملكها الذات الشاعرة.
إنّ هذا الاستدعاء يحقّق استراتيجية بنائية تتمثّل في خلق توترٍ بين الموصّل الصوتيّ –استنساخ عزف الموشّح بلغةٍ عربية فصيحة– وتقطيعٍ نحويٍّ واجتزائيّ يحوّل تلك اللغة الأمّ إلى مكوّن مشروخٍ يتوق إلى وظيفته الحقيقية في الوجود الشعري المعاصر.
يتعاظم هذا الصراع حين تتحول اللغة الجاهلية المدعاة إلى صدأٍ على شفاه القصيدة، فتتصاعد حدة التلقين الصوتي قبل أن ينفض نفسه من قيد الأسطورة.
تبدو عملية هدم القوالب هنا إعلانًا عن خيبة الانتماء الفخري، وعن نفاد الكلمات المفتاح التي يعتدّ بها الشاعر وهذه الأمة. وفي ظلّ ذلك، ترتفع نبرة الفراغ وتستدعي صور الصحراء الفاقدة ماءها، كم سيموت الشهيد قبل أن يودّع القبيلة أو يترك أثره في ذاكرة المكان.
هذه المراسلات بين صور الجفاف الداخلي والحدب الأسطوري تظلّ في صلب بنية الوحدة الموضوعية للديوان، إذ من خلالها يُظهر الشاعر كيف ترتبط ولادة النصّ بمعركةٍ ضدّ تراثٍ لا يتسع لمساحة الأسى الفردي والوجودي.
تنهي قصيدة «طفولة» رحلة الذات الشاعرة في الديوان بعودةٍ إلى اللحظة الأولى للوجود الإنساني: ما قبل العقل وما قبل النزوع إلى الإيديولوجيا. تتحوّل هنا المفردات إلى لحظات ورعٍ للحواس؛ فالصورة البصرية تلتقي بالصوت الخافت للضحكة الأولى، وتلتقط اللعبة الأزلية التي تظلّ مرآة للبراءة المتداعية.
يُبرمُ الشاعر عقدَ الصلح مع الطفولة كفضاء لا يرفض الحياة، بل يتعلّم منها كيف تُولد الكلمات العفوية قبل أن تقسو عليها تجربة النضج.
ختامًا، إنّ وحدة الديوان لا تقوم فقط على تكرار الصور أو الموضوعات، بل على نسقٍ منهجيٍّ متماسكٍ ينطلق من فعل إبداعيّ أوليّ إلى خطابٍ يستدعي ذاكرة المكان، ثم ينتهي بإعادة تأسيس حميمي لشروط الولادة اللغوية.
هذا النمط البنائي تأكّده سلسلة الاستراتيجيات التقنية التي تتجاوز الزمان والمكان: الإيقاع العروضي الملتبس بالإيقاع الحرّ، الانزياح النحوي الذي يطلق الجملة في فضاءات المفتاح الذاتي، والموائمة الدائمة بين الحرية الأسلوبية والالتزام الموسيقي.
يضاف إلى ذلك استثمار الصور الحسية (كالطين والنور والماء) والرمزية (كالدمع والنوح والفراغ) في رسم مسربٍ موضوعيٍّ يمتدّ عبر القصائد ويثبّتها تحت مظلة «الهواء الشعري» الواحد. فالديوان يقدم ذاته كنسيجٍ موحّدٍ يبقى مفتوحًا على الإبداع والقراءة والتأويل.
** **
- د. منى العنزي