تعدد تعريفات الخطاب التعليمي وتتشابك تفاصيله وتختلط حدوده، خاصة إذا عبرنا بين حقول معرفية تنشد إلى وجهات نظر مختلفة، وليس همي هذا التأطير المنهجي الصارم، ويكفينا أن نعرف الخطاب بأنه «نظام توجيهي من وجهة نظر معينة»، ونقصد بالتعليمي: الممارسة التعليمية الإجرائية وما يتصل بها من علوم ونظريات، فالخطاب التعليمي الذي نعنيه هو تلك الممارسة الموجهة نحو نقل المعرفة بقصد التعليم والتربية، وهو يستند في هذه الممارسة إلى وجهة نظر مخصوصة في شكلها ومنطقها. لقد حرصت الأمم منذ القدم وحتى اليوم على شكل تعليمي مخصوص في نقل الخبرات والمعارف والقيم إلى طبقات مختلفة من المجتمع وارتبطت معايير التقدم بضبط هذه العملية ومدى فعاليتها فنشأت لذلك الكتاتيب وحلقات المساجد التي تحولت إلى مدارس وجامعات وتحول الشيخ إلى معلم وأستاذ جامعي، وتحولت تلك الاجتهادات والجلسات إلى مؤسسات ذات ضوابط مهنية وأكاديمية، وقد تنوعت أساليب التعليم بعد ذلك وتوسعت مجالاته وتطورت أساليبه ودرست ثوابته وقضاياه في قاعات الدرس وعلى صفحات الكتب، وليس هناك شك في جدوى هذه السبل؛ لإحداث الأثر المرجو، فالأمم تتسابق في هذه الميادين وقد رأت قوة العلم في الوصول إلى غاياتها في مختلف المجالات، ورغم حاجتنا الأكيدة إلى مثل هذه الممارسة ورغم ارتباط التعليم بالتقدم والازدهار إلا أن المبالغة والاتكاء المفرط على هذا المنطق خلف لنا تشوهات جسيمة في جسد الثقافة؛ وهي تشوهات ترسخت وزادت تعقيدا في مفاصل الفضاء الثقافي المنتج للمعرفة، وحتى لا تأخذنا الحماسة لمواطن المبالغة سنحاول فهم مشكلات هذا الخطاب.
فبداية يتأسس هذا الخطاب على ادعائه الخيرية والمثالية؛ وهي صفة أساسية في هويته؛ فمن النادر والقليل والشاذ التشكيك فيه؛ فهو دائما في جانب المثل والقيم، وهو دائما ينشد الخير ويتغياه لمريديه وطلابه. إن هذا الادعاء يكسبه سلطة هائلة فيسمح له بدخول المنازل واحتلال منابر التعليم وشغل مساحات واسعة من الكتب والمحاضرات ومخاطبة عقول الناشئة التي لا تملك ردا له أو فحصا لأخطائه. ولا أقصد من قولي هذا أنه خطاب شرير بطبعه يملك مقاصد التدمير والخراب، وإنما مقصدي أنه خطاب بشري يملك حظوظا متساوية في الخطأ والصواب بل إن نزوعه للخطأ أكثر؛ لأنه خطاب مغلق كما سياتي معنا.
وصفة أخرى تتصل بما سبق وهو ادعاؤه امتلاك الصواب دائما، وهذه مشكلة منهجية كبيرة، إن من طبيعة العلوم والمعارف أنها غير قارة، فالثبات والاستقرار ليسا من طبائع البناء التراكمي للنظريات المعرفية؛ فمن خصائص هذه المسالك أنها تتحرك باستمرار وتعيد بناء كثير من ثوابتها وعلومها، لكن منطق التعليم يخالف هذا كله؛ فهو يلح على وجود صواب واحد حتى يستطيع بناء خططه التعليمية لإيصاله للمتعلمين. إن هدف الممارسة التعليمية هو إيصال المعلومة بأقصر الطرق وليس التحقق منها، ولأجل هذا شوهت هذه الممارسة النظريات العلمية وحفرت في بعضها ندوبا لا تمحى، وذلك لأنها تلح على استبعاد غير المرجح والمفضول وغير الشائع والأقل صحة، وهذا ما جعل المتعلمين حتى في أعرق الجامعات يفهمون أن طريق العلم خطي له اتجاه واحد، وهذا خطأ كبير، إذ إن المتعلم ينشأ وفي ذهنه وضوح زائف لنواتج التعليم ومساراته.
ومن المشكلات المنهجية في بنية هذا الخطاب اتجاهه الأحادي؛ فطبيعته تفرض نوعا من التسليم لا يقبل فيها بالنقاش والجدل وتعدد الآراء، إنه خطاب ذو اتجاه واحد من متحدث متعال يملك المعلومة الصحيحة دائما إلى متلق جاهل بها محتاج إليها، وهو شكل يتوسل بقداسة التعليم ويستجدي صفات التبجيل وألقاب الاحترام بدعوى نجاح هذه العملية لكنه في الوقت ذاته يصنع سياقا عنيفا لقبول تمرير المعلومة بأسرع طريقة دون تشويش الاعتراضات والنقاشات فتتحول المعلومات إلى نصوص مقدسة في أذهان من يتلقاها.
وإذا حاولنا مراقبة آثار هذه الممارسة على أطراف الخطاب سنجد مجموعة من الملحوظات الغنية، فبداية يؤثر هذا الخطاب على المعلمين أنفسهم؛ فالمعلم يسجن نفسه في شكل مثالي منزه عن الأخطاء الأمر الذي يشده إلى شكل من الانفصال النفسي بين حياته الطبيعية التي لا بد أن تحوي كثيرا من الأخطاء وبين شخصية مدعاة لا يتوقع منها إلى الصواب دائما؛ فالمعلم يرى هذه الممارسة في حدود المهنة التي تنقضي بانقضاء مدتها ولكن المتلقي أو المتلقين يجبرونه على تنميط معين وتصنيف خاص فلا يقبل من المعلم إلا أن يكون مثاليا وإلا فهو مدان أخلاقيا.
وهو يؤثر أيضا على الطلاب المتلقين لهذا الخطاب؛ فهو يربيهم على الانصياع التام والتسليم المطلق لمعلومات المعلم المحاط بهالة من التقديس والتبجيل، إن نظام الفصل والقاعة أو حلقات العلم وفيه يتحلق الطلاب حول شخص المعلم وكل تقاليد ذلك المقام يربى في الطالب قبولا كبيرا لكل ما يقوله المعلم، وهذا ما يجعل الأقوال والمعلومات تنتقل سريعا بصوابها وخطئها وتستقر في خانة الثابت المقطوع بصحته في أذهان الطلاب، ولعل هذا يفسر الإلحاح على خطابات علمية معينة تتوارثها الأجيال جيلا بعد آخر دون فحص أو تمحيص أو نقد لمكوناتها نحو المذاهب والأيدولوجيات والثقافات والآداب، وذلك لكونها تستخدم المسار التعليمي بكل تفاصيله المقدسة.
إن الأثر الواقع على طالب بعد أعوام من إخضاعه ثقافيا واجتماعيا وأخلاقيا للقبول المطلق والموافقة التامة لكل ما يأخذه في قاعات الدرس يشوش منطقه العلمي ويحوله إلى آلة تردد أقوال من علمه دون إضافات علمية حقيقية في مجاله، وهذا فشل كبير وخسارة لا تقدر بثمن، حين نكتشف أن الملايين من طلابنا في مختلف المجالات لا يملكون مهارات الفحص والنقد البناء بل يخافون من مجرد مساءلة ما استقر في عقولهم من نتائج هذا الخطاب.
أما آثار هذا الخطاب على العلم نفسه فهي كثيرة وذات جوانب مختلفة وبعضها يهدم العلم ويربك منطقه، فمن ذلك أن الخطاب التعليمي يفرط في الاتكاء على التقعيد والتنضيد في كل أحواله، وهذا جيد ومفيد في عملية التعليم لكن المبالغة في بناء العلوم على هذه الطريقة يربك منطقها ويشوش طبيعتها، فالفيزياء والرياضيات ومجموعة من العلوم التجريبية ليست بالوضوح الذي يصور لنا في المدارس والجامعات وليس بالخطية المرتبة والقوالب المنضدة التي يفرط الخطاب التعليمي في ترسيخها وتثبيتها، كما أن هذا المنطق يقصر العلوم على قوالب محددة مستبعدا الخارج عن منطقه مهمشا له، ولعل الخلاف الذي حدث بين البصريين والكوفيين في بواكير علم النحو مثال واضح على ذلك. وحتى لا يتحول حديثي إلى مجرد هدم دون تقديم حلول أو طريق يقود إلى شكل من أشكال البناء، ينبغي أولا أن نعي هذا الإشكال ونفهمه ونستوعب أضراره، كما نحتاج أن نراجع سياسيات منطق التعليم في دورات زمنية متوالية فتنقح الكتب وتغير السياسيات، ينبغي علينا كذلك تغيير تمط التعليم بشكل تدريجي؛ فهو في بدايته يعتمد التلقين لكنه يتحول إلى ممارسة حوارية يستطيع المتعلم فيها أن يبني آراءه ووجهة نظره وألا يخجل من أخطائه، ينبغي علينا أن نفتح أبواب القاعات الجامعية لأشكال من الفحص والتحليل والمناقشة وأن تستبعد الكتب الجاهزة والمنمقة وطرق التلقين.
** **
- د. عادل الغامدي