الكتاب، الذي يحمل عنوان «يوميات سجين» (Le journal d»un prisonnier)، عبارة عن تأملات تصف الأحداث التي عاشها الكاتب خلال احتجازه في سجن لا سانتي la Santé بباريس.
يأتي هذا الكتاب، الذي يصدر في 10 ديسمبر 2025 في حوالي 216 صفحة عن دار نشر فايار الفرنسية، كنافذة لرصد تجربة ساركوزي الشخصية كسجين يروي أحداثاً تعكس مزيجاً من الوصف الواقعي للحياة داخل السجن والتحليل الدقيق لسلسلة من التحقيقات الجنائية تتعلق بقضايا فساد وتمويل غير مشروع.
الإعلان عن هذا الكتاب جاء عبر حساب ساركوزي الشخصي على منصة X، وفيه يصف ساركوزي تجربة السجن بعين من عاش الصدمة ولم يستسلم لها: «في السجن، لا شيء يُرى ولا شيء يُفعل. أنسى الصمت الذي لا وجود له في سجن لا سانتي «la Santé»، حيث الضجيج المستمر، فكما في الصحراء، تتعمق حياة الإنسان الداخلية». بهذه العبارة، يكشف الرئيس السابق أن السجن لم يكن فراغاً ضيقاً فحسب، بل مساحة مكثفة للتفكير في الذات والمحنة والمسار السياسي الطويل. كما لم يكن إعلان دار نشر فايار «Fayard» الفرنسية عن كتاب جديد للرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي، «يوميات سجين» مفاجئاً للمتابعين بقدر ما كان تجسيداً واضحاً لشخصية سياسية مشهورة لا تغيب عن الساحة حتى في أكثر لحظات انكسارها وضعفها.
فمنذ أيامه الأخيرة قبل دخول سجن لا سانتي «la Santé»، كان الرئيس الفرنسي السابق يهيئ الرأي العام لمرحلة جديدة من الحضور الإعلامي: ففي مقابلة مع مجلة باري ماتش «Paris Match»، قبيل إيداعه السجن، صرح ساركوزي بشكل مباشر أن فترة الاحتجاز ستكون مناسبة للكتابة، قائلاً: «أفكر حالياً في عنوان للكتاب، أما عن المحتوى، فيتعلق في المقام الأول بالتجربة المريرة داخل السجن.
هكذا وُلد كتاب «يوميات سجين» ومن خلاله يلتقط ساركوزي تفاصيل الأيام العشرين التي قضاها خلف القضبان بين صخب السجن الدائم وزنازينه الضيقة: لم تكن زنزانته التي لا تتجاوز 11 متراً مربعاً مجرد غرفة احتجاز، بل مختبر سردي لإعادة قراءة فصل كامل من خبراته السياسية قبل أن تكون مجرد تجربة شخصية حيث لا يفصل ساركوزي في كتابه بين التجربة الشخصية والتداعيات السياسية التي أصابته في مقتل.
في هذا الكتاب، يعود ساركوزي إلى قضيته المرتبطة بالتمويل الليبي المزعوم لحملته الرئاسية عام 2007، وإلى التغطية الإعلامية التي تلاحقه منذ سنوات، وإلى ما يعتبره «ظلماً» الحُكم الذي قضى بسجنه خمس سنوات – مع أمر اعتقال فوري – وغرامة مالية قدرها 100 ألف يورو، ومن المقرر أن تبدأ محاكمته الجديدة أمام محكمة الاستئناف في مارس 2026 المقبل، ما يجعل كتابه الجديد جزءاً من المعركة الإعلامية - القضائية الأوسع التي يخوضها.
رغم الجدل الذي أثاره سجن ساركوزي، فقد شهدت الأسابيع الثلاثة التي قضاها خلف الجدران دعماً شعبياً غير مسبوق، حيث تلقت إدارة السجن يومياً ما يصل إلى ألف رسالة، بعضها من خارج فرنسا، الأمر الذي جعل حراس السجن يقولون إنهم لم يروا شيئاً مماثلاً لهذا من قبل: فالرسائل ترد في صناديق والمحامون ينقلونها في أكياس من الخيش والزائرون يتوافدون لدعمه.
أما عن الشارع الفرنسي، فقد شهدت باريس في 21 أكتوبر تجمعاً لمئات المواطنين الذين جاءوا للتعبير عن تضامنهم مع الرئيس السابق، وهو مشهد يوضح أن ساركوزي لا يزال شخصية حاضرة بقوة في المخيال السياسي الفرنسي.
يقول مقرّبون منه إن الكتابة بالنسبة لساركوزي لم تكن هواية عابرة ولا وسيلة للدفاع الإعلامي فحسب، بل حاجة ملحة لاستعادة توازنه النفسي، فهو دائماً ما يلجأ إلى القلم كلما واجه أزمة كبرى، ولهذا فقد أراد ساركوزي أن يروي للفرنسيين ما حصل له بالطريقة التي يراها هو بلا وساطة وبنبرة لا تخلو من تحد وصراحة.
الكتاب إذن ليس اعترافاً منه عن أخطاء وقعت ولا مجرد يوميات لأحداث جارية فقط، بل محاولة لتفسير ما يراه الرئيس السابق تحولاً خطيراً في العلاقة بين السياسة والإعلام في فرنسا، وهو التحول نفسه الذي يراه مؤيدوه سبباً في الملاحقة القضائية التي تطاله منذ سنوات.
يرى المراقبون أنّ إعادة إحياء القضية إعلامياً، عبر كتاب يصدر بعد أقل من شهر من خروجه من السجن، يعيد النقاش إلى دوائر الاستقطاب ويغذي ثقافة التلويح بالمظلومية وربما يشوّش على سير العدالة نفسها. البعض منهم يرى أنّ ظهور ساركوزي المتكرر، رغم ثقل الملفات التي تلاحقه، يضعف صورة فرنسا في الخارج، وأنه كان أحرى بالرئيس السابق أن يختار الصمت، أو على الأقل الانسحاب المؤقت من دائرة الضوء.
ختاماً: إن كتاب «يوميات سجين» من تأليف الرئيس الفرنسي السابق ساركوزي لا يعدّ كتاباً عابراً، لكنه يُعتبر وثيقة تعكس تشابك المصير الفردي بالمنظومة السياسية، وتفتح الباب أمام أسئلة واسعة حول العدالة ودور الإعلام وطبيعة الحياة السياسية في فرنسا المعاصرة.
وسواء اتفق القارئ مع ساركوزي أم اختلف، يظل الكتاب كأنه تجربة نادرة لرئيس سابق عاش السجن وخرج منه بقلم يكتب وصوت يعلو ورغبة واضحة في أن تبقى معركته بكل أبعادها السياسية جزءاً من النقاش العام.
** **
أيمن منير - أكاديمي وكاتب ومترجم مصري
ayman-mounir.webnode.fr