كثيرًا ما تتردد عبارة «خلي عندك إنسانية» استياء ممن بدر منه سلوك غير أخلاقي أو قاس، أتساءل: كيف نطلب من إنسان أن يكون إنسانيًا؟ أليس الإنسان هو إنسان بطبيعته؟ أم إن بعض الأفعال أو الأقوال تُخرجه من دائرة الإنسانية فتقال له هذه العبارة لإعادته إلى صفة الإنسان التي تقوم على المشاعر والرحمة وكف الأذى عن الخلق، وليس الصفة البيولوجية الجسمية، فنحن لا نمنحه شيئًا جديدًا، بل نُنبهه إلى ما فقده، ونذكره بما غاب عنه، وما يجب أن يعود إليه، فهي بمثابة الاستغاثة والنداء لتوقظ ضمير من تخلى عن جوهره الإنساني من غفلته.
فالإنسانية ليست في الصفات البيولوجية، ولا فيما تحمله من اسم، بل هي في الأفعال. في أن ترعى الآخر، ليس بوصفه جسدًا عابرًا، بل إنسانًا من لحم ودم يشعر بالألم وبالفرح، في أن تنشر الأمل، وتزرع الخير، في أن تُنصت لا لترد بقسوة، بل لتفهم وتطبطب. في أن تُساعد، لا أن ترائي وتُظهر فضلك، بل لتُخفف وتمسح وجعًا لا يُرى.
من المواقف التي تركت أثرًا طيبًا في ذاكرتي وأشعرتني بأن مهنة التعليم قبل أن تكون تلقينًا هي علاج للروح، حين كنت معلمة للمرحلة الابتدائية، وكان في الصف الثالث الابتدائي طالبة تعاني من التأتأة، فاقدة للثقة، تقرأ بخجل شديد، وفي أحد الأيام، قالت إحدى الطالبات بكل براءة: «أستاذة لا تخلين نهال تقرأ تطول مرة وقراءتها موب حلوة» ولصغر سنهن، لم يدركن أثر كلماتهن عليها، وهنا يأتي دوري أن أزرع فيهن قيمة تقبّل الآخر فقلت بحزم ممزوجًا بالحنان: «لا، نهال ممتازة، وقراءتها جميلة، وكل يوم هي تقرأ وأنتم تقرؤون وراها» فرأيت في عيني نهال فرحة لا توصف، وقررت أن أجعلها محور اهتمامي. في كل يوم أبدأ حصتي بقراءتها، وأشيد أمام زميلاتها بتميز قراءتها، ومع مرور الأيام بدأت ثقتها تنمو شيئًا فشيئًا، وصارت تبادر بالقراءة قبل أن أطلب منها، وبدأت التأتأة تتلاشى، لتحل محلها قراءة سلسة وواثقة. كنت أحرص في كل حصة على مكافأتها؛ لأعزز في داخلها شعور الإنجاز وحلاوته.
ومع مرور الأيام جاء موعد مجلس الأمهات، فجاءت والدتها تبحث عني والكل يقول: «أم نهال تدورك» وحين التقيتها، شكرتني بحرارة على ما صنعت وقالت: «بنتي ما تذكر إلا اسمك في البيت، وقراءتها تحسنت تحسنًا ملحوظًا، وثقتها بنفسها زادت، وحتى شخصيتها تغيرت تماما، صارت تحب المدرسة!» كانت كلمات هذه الأم أعظم مكافأة لي، شعرت حينها أن كل الجهد الذي بذلته لوجه الله قد تُوّج بدعاء صادق في ظهر الغيب.
مثل هذه المواقف تؤكد أن التعليم والإنسانية لا يمكن فصلهما عن بعض. كلمة واحدة من المعلّم قد ترفع طالبًا وتفتح له أبواب الأمل، أو تحطمه وتجعله يرفض الحياة. فالتجربة علمتني أن مسؤولية التعليم لا تقتصر على إيصال المعرفة فحسب، بل هو باب واسع للإنسانية، يمتد إلى بناء الثقة، غرس الاحترام، وإحياء روح الطالب ليكون قادرًا على مواجهة الحياة بإيجابية وثبات.
الإنسانية لا تُقاس بالشهادات ولا بالمناصب، بل نلمحها في التفاصيل: في احترام الكبير، وإسعاد الصغير، ورحمة الضعيف، الإنصات لمسن، في التعاون مع المختلف، في أن تخفف وطأة الحياة وثقلها على غيرك ولو بكلمة، أن تُربّت على كتفٍ منهك، أن تقول «أنا هنا» لمن ظن أنه وحده.
في عملي الأكاديمي، أُتيحت لي فرصة الإنصات للكثير من طالباتنا، فوجدت معاناتهن من سوء المعاملة، إثقال بتكاليف تفوق الطاقة والتعامل معهن بتعال وجرح أرواحهن وزعزعة ثقتهن بأنفسهن، ولا يوجد أهالي طلاب يقبلون أن يحبط أولادهم أو يقلل من شأنهم، بل ليبنوا مهاراتهم، ليعودوا أكثر قوة وثقة، ليصنعوا المستقبل، لا أن يتخرجوا مثقلين بالعقد النفسية والانكسارات. فلنعد النظر في أساليبنا، ولنعاملهم كما نحب أن نُعامَل.
وقد ورد في عدة أحاديث ثواب الإحسان إلى الخلق الإنسان والحيوان: فمن يرحم الخلق يرحمه الله، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، بل إن من يرحم الشاة حين يذبحها يرحمه الله وأن رجلا سقى كلبًا اشتد به العطش فغفر الله له بهذا الفعل وقال: إن في كل ذات كبد رطبة أجر.
فحين تسمع: «خلي عندك إنسانية»، لا تغضب وتعتقد أنها إهانة أو تقليل من شأنك، أو تشكيك في أصل خلقتك، بل هي طلب أن تستحضر ما اندثر من إنسانيتك. وتخاطب ما تبقّى من نور في داخلك، وتوقظ قلبك من غفلته، وتتذكر بأن الإنسانية مشروع أخلاقي، لا بيولوجي فقط.
همسة في أذنيك: لا تكن إنسانًا بالاسم فقط، بل بالفعل، كل يوم هو فرصة لتكون أكثر إنسانية،
كن من الذين لا يحتاجون إلى من يقول لهم «خلي عندك إنسانية»، لأنهم يعيشونها، يُجسّدونها، ويمنحونها للعالم دون مقابل.
** **
د. نورة بنت عبد الله بن إبراهيم العمر - أستاذ الأدب والنقد المساعد بجامعة الملك سعود
@nora_7055