الثقافة لا تُصنع فقط في المتاحف أو المسارح الكبرى، بل تُخلق في الفراغات التي نتركها خلفنا. تلك الأماكن المنسية ليست ميتة؛ إنها رحم الفن الجديد.
في كل مدينة، هناك بقايا تُترك للنسيان: مستودعات مهترئة، محطات قطار صامتة، أسواق مغلقة متآكلة، نراها ونمرُّ بها دون أن نلاحظ أنها ليست مجرد بقايا جدران، بل ذاكرة حية و فنّ تحت وطأة الزمن.
الفن كفعل مقاومة للنسيان
عندما نتحدث عن الفن، نربطه عادةً بالجمال، أو التعبير، أو حتى الترف. لكن في الأماكن المهجورة المنسية، يتحول الفن إلى فعل بقاء. ففي بيروت، بعد انفجار المرفأ عام 2020، تحولت المباني المدمرة إلى لوحات جدارية ضخمة. فنانون شباب لم ينتظروا إذناً من الحكومة أو المنظمات. أتوا بألوانهم، ورسموا آثار الراحلين، وكتبوا عبارات مثل: «نحن هنا». لم يكن هذا فنّاً جمالياً، بل فنّ يُعلن الوجود. في تلك اللحظة، تحولت الجدران المتصدعة إلى وثيقة تاريخية، إلى صوت شعب لا يريد أن يُنسى.
في المقاهي المهجورة، في المستودعات، في الأنفاق، يحدث الشيء نفسه. الفنان لا يأتي ليُزين المكان، بل ليُعيده إلى الحياة. هو لا يرسم على جدار فارغ، بل يرسم على جرح. والجرح هنا ليس استعارة؛ إنه الذاكرة الجماعية التي تُهدد بالتلاشي..كل كلمة شعر مكتوبة ،كلّ ترنيمة ، هي شهادة على أننا كنا هنا. فالفنّ يولد من رحم الغياب و الألم . الفنّ ينقذنا من التلاشي.
ولعليّ أستذكر ما حدث في مدينة الدار البيضاء،هناك حيث الفن يقاوم التلاشي و يرفض النسيان، في حي صناعي قديم يُدعى «المنطقة الصناعية القديمة». معظم مصانعه أغلقت منذ التسعينيات. لكن في إحدى الليالي، بدأ مجموعة من الشباب بإقامة حفلات موسيقية سرية داخل أحد المصانع. لا كهرباء، لا إضاءة، فقط مصابيح يدوية وآلات موسيقية تعمل بالبطارية. في البداية، كان الحضور 10 أشخاص. بعد شهر، أصبح 100. بعد سنة، أصبح المكان مشهداً ثقافياً لا يُذكر في الجرائد، لكنه يُعرف بين الشباب كـ«مصنع الصوت».
هذا النوع من الثقافة لا يحتاج إلى تمويل، ولا إلى إعلانات، ولا إلى تصاريح. هو ينمو كالأعشاب البرية بين الإسفلت. وهذا ما يجعله أصيلاً. لأنه لا يُصنع للاستهلاك، بل للعيش.
لكن لماذا نترك هذه الأماكن للنسيان أصلاً؟
لأننا نعيش في زمن يُقدّس الحداثة، الأبراج الزجاجية الشاهقة، أطواب الإسمنت و الشوارع المضاءة. نُهدم القديم لنبني الحديث، وننسى أن الذاكرة تحتاج إلى مكان. عندما نُغلق مقهى، أو نُهدم سينما قديمة، أو نترك محطة قطار للصدأ، نحن لا نُزيل بناءً فقط؛ نحن نُزيل جزءاً من أنفسنا.
في اليابان، هناك مفهوم يُدعى «مونو نو آواري» (mono no aware)، ويعني «حزن الأشياء الجميلة التي ستزول». لكن في ثقافتنا العربية، لدينا شيء مشابه: الحنين. نحن شعب يحمل الحنين في دمه. نغني للأماكن التي رحلنا عنها، نكتب عن البيوت التي هُدمت، نرسم الشوارع التي لم نعد نسكنها. والفن في الأماكن المهجورة هو تعبير عن هذا الحنين، لكنه ليس حنيناً سلبياً. إنه حنين يُحوّل الألم إلى خلق..خلق ليبقى لا ليزول..
الفن الذي لا يرى
في النهاية، الفن الأكثر أصالة هو الذي لا يُعلن عن نفسه. الذي لا يُصور، ولا يُنشر على وسائل التواصل، ولا يُكتب عنه في الصُحف. هو الفن الذي يحدث في الظلام، في الصمت، في الأماكن التي لا يمر بها أحد. هو الترنيمة التي ستتلاشى غداً، والأغنية التي لن تُسجل، والقصيدة التي ستُقرأ مرة واحدة ثم تُنسى.
لكن هذا الفن هو الأكثر حياة. لأنه لا يُصنع ليُرى، بل ليُعاش. وفي كل مرة نترك فيها باباً مفتوحاً، أو نترك جداراً فارغاً، أو نسمح للجميع بأن يُعبر عن نفسه في أماكن منسية، نحن نُحيي ثقافة جديدة. ثقافة لا تُكتب في الكتب، لكنها تُعاش في الذاكرة.
** **
- حورية الحمادي