في المجموعة القصصية رأيته يفتش عن صحراء للقاص /سامي جريدي وهي من فئة القصة القصيرة جداً الصادرة عن دار النابغة في طنطا /مصر عام 2021م .
جاءت غالبية القصص تتشح برداء الرمز، هي ومضة سردية خاطفة في ، تكتفي بإيماءة لا تصريح، وتبني عوالم كاملة ببضع كلمات. أستخدم الكاتب فن التلويح لا البوح، حيث تتكاثف الدلالة حتى تكاد تُختصر في صمت مُعبِّر أكثر مما تُفصح به الألفاظ. في شكل سردي موغل في الرمز، لا يقدم المعنى على طبق، بل يُزرع في التربة العميقة للقراءة، ليورق في ذهن المتلقي تأويلا حسب تلقيه.
القاص د. سامي جريدي يمتح من منهل أدبي عذب لذلك تميزت هذه المجموعة بأنها ذات لغة أدبية رائعة. افتتحها بقصة «تحليق»ص 4 والتي جاء فيها «بعصاه رسم على الرمل رموزاً وحروفا بأحجام مختلفة ترك لها حرية التشكل قبل أن يعيد ترتيبها من الزوايا لتصبح أشكال لمناقير وأجنحة ضخمة لطائر لم ير مثله في حياته فجأة قذف بعصاه وأخذ يطير» :
هذه القصة تنهض على بنية رمزية كثيفة، تتكئ على الفعل الإبداعي بوصفه محرّكاً للوجود، وباعثاً على التحول والتجاوز. هنا البطل المجهول الاسم والهوية، يستهل حضوره بفعل الرسم، بل تجاوز الحرف والرمز إلى تشكيل كائن أسطوري، هو «الطائر»، الذي لم يرَ مثيلاً له من قبل. أما الرمل هنا ليس مجرد مسطح للكتابة، بل هو مرآة للذات الخلاقة، والتحول المفاجئ في النهاية. والرمز الكلّي للطائر في الأدب – من إيحاءاته الصوفية عند ابن عربي، إلى طائر النار الفينيق – يحضر هنا كمعادل للحرية، للانطلاق، وللتحوّل من المادي إلى المجرد. وهكذا، فإن النهاية ليست نهاية فعلية، بل بداية لطيران آخر، خارج السرد، وخارج الرمل، في فضاء التخييل المطلق.
جماليات اللغة في النص تتجلّى في التدرّج من البسيط إلى العجائبي، ومن الواقعي إلى الرمزي. و كل مفردة تنطوي على كثافة إيحائية، بدءاً من «رموزاً وحروفاً» ثم تضع القارئ في فضاء الكتابة، وصولاً إلى «مناقير وأجنحة» التي تنقلنا إلى تخوم الحلم والتحوّل.
أما في قصة ارتياب ص8 التي لاتتعدى تسع كلمات « اوقفني في الرياح، مد لي غصنا من شجر الارتياب» .
تبدأ الجملة بفعلٍ مباغت يحاكي الصدمة: أوقفني. الفاعل غائب، مجهول، لكنه نافذ كالسوط. والمكان ليس أرضاً ولا شارعاً، بل الرياح - وما الرياح هنا إلا رمز للعصف، للتيه، وربما للفوضى الداخلية. أوقفه لا في سكون بل في حركة، لا في أرض بل في هواء.
«مدّ لي غصناً من شجر الارتياب»
هنا تتكثف الرمزية وتتوالد الصور. اليد التي امتدّت لم تحمل وردة ولا سلاحاً، بل غصناً. والغصن هو الرمز للسلام، لكنه هنا من شجرة غرائبية، شيئاً من الشك، من عدم اليقين، من الخوف المستتر. وكأن من يطلبه المدد لم يمد له طوق نجاة .. شجر الارتياب، رمز لعدم الارتياح. القاص د. سامي جريدي دون مشهدا داخليا مكثّفا، وترك القارئ واقفاً على عتبة الارتياب، حين أوغل في الرمزية كما ذكرت في البداية.
وفي قصة «ناي» ص16»يرمي بصوته إلى الشمس، باحثاً عن الناي المخبؤ في حنجرة الوادي» الجملة تفيض بالمجاز والدلالة الرمزية. فالفاعل هنا يتجاوز الفعل العادي للكلام أو الصراخ، بل «يرمي» صوته، وهذا الفعل يوحي بالقوة ، ويبدو أن الشمس هنا ليست مجرد جرم سماوي، بل قصد فيها الرمز للعلو، للنور، أو للحقيقة الغائبة. وكأن الصوت يريد أن يخترق ما وراء الضوء، أن يبلغ مقاماً أسمى من مداه الطبيعي.
ثم يأتي الجزء الثاني، الذي يحمل موسيقى داخلية رائعة: «باحثاً عن الناي المخبؤ في حنجرة الوادي». الصوت هنا لا يذهب عبثاً، بل يبحث، يسعى، يتقصى أثراً موسيقياً دفيناً. والناي، آلة البكاء الإنساني، رمز الحنين واللوعة، مختبئ في «حنجرة الوادي» - تعبير استثنائي يصور الوادي ككائن حي، له حنجرة، له صوت، لكنه صامت منذ زمن، أو ربما ينتظر من يوقظه.
وعلى أي حال فالجملة كلها تتشح في لغة شعرية، وتغوص في عالم خفي .
إنها ومضة سردية، لكنها بمقام قصيدة من التأمل والتوق.
أما في ص56 «ترك لي شمسا حارقة وغادرني، قبل أن أغسل وجهي بالرمل، وماء الترقب، وألحق حافيا بالسراب».
جملة مذهلة تحمل شعور الخيبة والتوتر . الغسل عادة يرتبط بالتطهر، لكن «الرمل» هنا ليس ماءً، بل جسد الصحراء، كناية عن الجفاف، عن الافتقار إلى النقاء، و»ماء الترقب» يوحي بانتظار مشوب بالأمل، لكن الماء مؤجَّل، غائب، وكأن الحياة نفسها مؤجلة حتى إشعارٍ آخر.
«وألحق حافيا بالسراب»: يكتمل الإيحاء بالتضليل، بالوهم، بالسعي وراء ما لا يُدرك. «حافيا» ترمز للضعف، للخذلان،
والقصة تُغلق بنبرة منكسرة، لكنها فخورة. برغم الوجع لم تبكِ، بل مشت، وإن كانت حافية، وإن كان دربها سراباك.
لقد كتب الكاتب نصوصاً مرصعة بالجمال، في حيز لا يتجاوز السطر الواحد في مجموعة قصصية رائعة احتوت على أكثر من خمسين قصة قصيرة جداً، كتب القصص بأسلوب شعري عالٍ، يحمل نغمة النثر ، ويضمر وجعا وجوديا ، ونصا عميقا، مكثفا، وفي رمزية عالية.
** **
- براك البلوي