الثقافية - علي القحطاني:
يتحدث المؤرخ والدبلوماسي الفرنسي لويس بلان عن معجمه الفريد «Dictionnaire insolite de l’Arabie saoudite»، الذي يقدم فيه صورة جديدة للمجتمع السعودي بعيدًا عن الأحكام المسبقة التي تنتشر في وسائل الإعلام الغربية.
لويس بلان،Louis BLIN، الذي عاش سنوات طويلة في المملكة، يسعى من خلال هذا المعجم إلى سد الفجوة المعرفية بين الغرب والمملكة، مؤكدًا أن الكثير من التصورات السلبية عن السعوديين ناتجة عن نقص المعلومات وتكرار الصور النمطية.
ويُظهر بلان من خلال لقائه مع «الثقافية» أن هدفه لا يقتصر على تقديم صورة ثقافية جديدة عن المملكة، بل يمتد أيضًا لتعزيز الثقة بين الثقافات، داعيًا الغربيين إلى زيارة السعودية ليشاهدوا الحياة اليومية هناك بأنفسهم.
كما يبرز التنوع الثقافي في المجتمع السعودي، الذي يعكس غناه الحضاري، من المأكولات والطبيعة إلى فن العمارة والحياة البرية..
(مراجعة - أ.د.محمد خير محمود البقاعي)
وعلى الرغم من التحديات التي يواجهها المجتمع السعودي، يشيد لويس بلان بالجهود المستمرة من القيادة السعودية، بقيادة الملك سلمان وولي العهد الأمير محمد بن سلمان، لتحقيق تحول حضاري غير مسبوق. كما يؤكد لويس بلان أيضًا على أهمية تبادل المعرفة الثقافية بين الفرنسيين والسعوديين، معتبرا أن الثقافة الفرنسية جزء من الثقافة العربية وأن التنوع في العالم العربي هو سر وحدته.
وسيصدر هذا المعجم في 23 مايو 2025 عن دار نشر COSMOPOLE، ليكون إضافة قيمة للمكتبة الفرنسية والعالمية حول المملكة العربية السعودية. بلان، الذي شغل منصب قنصل فرنسا العام في جدة بين عامي 2012 و2016، هو مؤرخ ومستعرب ألف أكثر من 15 كتابًا عن العالم العربي والإسلام، منها كتب عن المملكة العربية السعودية مثل «المملكة العربية السعودية من الذهب الأسود إلى البحر الأحمر» و»اكتشاف الفرنسيين الجزيرة العربية».
لويس بلان،Louis BLIN مؤرخ ومستعرب وقنصل فرنسا العام في جدة من 2012-2016 م عاش وعمل في الجزائر والمغرب وسورية وفي مصر والإمارات العربية المتحدة.
ألف ما يقارب خمسة عشر كتابا عن العالم العربي والإسلام، عدد منها عن المملكة العربية السعودية منها: المملكة العربية السعودية من الذهب الأسود إلى البحر الأحمر، رابطة العالم الإسلامي، ألكسندر دوما: سرديات بلاد العرب، مدينة حواء: أيقونات فرنسية مختارة عن مدينة جدة حتى عام 1940م.
اكتشاف الفرنسيين الجزيرة العربية، وهو يتابع أبحاثه اليوم في المعهد الجامعي الأوروبي في فلورانسة (إيطاليا).
المعجم الفريد
ما هو موضوع المعجم الفريد للمملكة العربية السعودية «Dictionnaire insolite de l’Arabie saoudite» ؟ وكيف يعكس المعجم المجتمع السعودي من خلال التصوير الثقافي؟
ألفت هذا المعجم لجمهور عريض من الغربيين الذين لا يكادون يعرفون شيئا عن المجتمع السعودي، ويلجؤون غالبا إلى الأحكام المسبقة التي لا تتناسب مع حقيقة الشعب السعودي والبلاد السعودية والقيادة الشابة اليوم.
لقد وضعت نصب عيني في المقام الأول أن أدني القارئ الغربي من السعوديين في حياتهم اليومية بأن أرسم لهم عالما مألوفا يمكن له أن يكتشفوه بلا أي رهبة.
أما الهدف الثاني الذي رميت إليه فهو تشجيعهم على الذهاب إلى عين المكان؛ وهذا شرط أساسي لإقامة علاقات ثقة.
أما الهدف الثالث، فهو بكل صراحة لاستكمال نقص في المعلومات لمسته اليوم لدى الفرنسيين عن المملكة العربية السعودية.
وأنا أعد هذا المعجم وجها من وجوه الشكر للسعوديين حفاوة الاستقبال التي خصوني بها في ديارهم.
ويصدر هذا المعجم اليوم ضمن سلسلة وصل عدد الكتب التي صدرت في إطارها ما يقارب ستين كتابا عن ستين بلد، واتخذت هذه الكتب في شكلها ومضمونها نمطا موحدا.
ويهدف إدراج التعريف بالمملكة ضمن هذه السلسلة إلى تحقيق واحد من أهداف رؤية قيادتها.
وليس هذا بالأمر الهين عندما نلمس النقص الكبير في المعلومات الذي ما زال قائما، ويحتاج إلى جهد لتدعيم ما حصل من تقدم على مختلف الأصعدة.
وإن إدراج المملكة في السياق الحضاري الذي نتحدث عنه هو في نظري فعل يحتاج إلى جهد دؤوب. يقف هذا الكتاب في وجه محاولات تقديم المملكة في إطار من النظرات المسبقة والصيغ المتحجرة التي لا تعرف في الغرب من الألوان إلا الأسود والأبيض، والتي يغيب عنها أن تنوع المجتمع السعودي هو مظهر من مظاهر الغنى الثقافي.
إن هذا البلد الشاسع يقدم للزائر على المستوى الحضاري العديد من المظاهر البديعة التي لم تخطر على بال؛ في المأكل، وجمال الطبيعة، وفن العمارة، والحياة البرية.
لقد سعيت إلى تقديم كل ذلك بأسلوب مبسط، وتفاعلي.
ليس الكتاب كتاب دعاية لأن افتتاني الغامر بهذا البلد وسكانه لم يمنعني بدافع الحرص من الإشارة إلى بعض ما ينبغي العمل على تحسينه طلبا لإزالة بعض ما علق به من مآخذ، أفعل ذلك كي لا أفقد المصداقية فيما أقول.
. لقد كان من حسن حظي أنني عشت في المملكة العربية السعودية، وفي بلدان عربية أخرى أشرتم إليها، وأنني فضلا عن ذلك تزوجت فلسطينية.
ويغيب عن أذهاننا أيضا أن التنوع في العالم العربي هو سر وحدته، كما أن التنوع في أوسع صوره هو الذي يضفي على الإسلام تميزه أكثر مما يفعل ذلك اختلافه عن الأديان السماوية الأخرى.
إننا لا نفهم حق الفهم شخصية العربي المسلم إلا عبر انفتاحه على الآخر الذي يشكل قاعدة مزيته المتفردة في مجال الكرم.
تجارب متنوعة
لقد عشت وعملت في العديد من الدول العربية مثل الجزائر والمغرب وسوريا ومصر والإمارات.
كيف أثرت هذه التجارب المتنوعة على فهمك للعالم العربي والإسلام؟ وما الذي يمكن أن تضيفه هذه التجارب على أبحاثك؟
لقد عشت ذلك في الحياة اليومية منذ أن عرفت العرب والمسلمين قبل خمسين عاما في الجزائر.
لقد تمتعت منذئذ بالاستقبال الحافل من الخليج إلى المحيط.
لم يكن ذلك الاستقبال الذي هو كما أفهمه إلا سمة من أكثر السمات نبلا في هذه المنطقة من العالم.
إن المبدأ الذي اعتدت السير بهديه هو ألا أكتب عن بلد لم أعش فيه؛ لأنه لا شيء يعدل الاحتكاك بالواقع. لقد نذرت حياتي وكتاباتي لمحاربة العنصرية الغربية إزاء العرب والمسلمين، عنصرية تتولد من الجهل الذي يولد الخوف من الآخر، مع أن من أسهل الأمور أن تمضي نحو لقاء الآخر حتى في أوروبا حيث يقدر عدد العرب والمسلمين بالملايين.
إن الثقافة العربية في غير وجه من الوجوه أقرب إلينا من الثقافة الأمريكية التي تملك علينا أمورنا. إن الأمة السعودية الجديدة التي أعمل على تحليل تكونها وتطورها في هذا الكتاب؛ أمة ولدت في جانب منها من التفاعل بين القيادة المستنيرة للملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود، ولولي العهد الأمير محمد بن سلمان، وبين الوهج الثقافي للشباب السعوديين وللمرأة على وجه الخصوص.
إن هذه التجربة تعد من وجهة نظر علم التاريخ وعلم الاجتماع تجربة استثنائية لأنها تسير بإيقاع متسارع، وفي ظل عوائق لا تكاد تذكر. إن نضج الشعب السعودي ظاهرة عجيبة في الوقت الذي نجد شعوبا أخرى يمزق بعضها بعضا حيال ذلك.
ينبغي على الأجانب الذين ما زالوا ينتقدون النزعة التقليدية للبلد أن يتذكروا أن الإصلاح ينبغي أن يتقبله المجتمع لكي لا يكون مصيره الإهمال.
إنني بالتأكيد لا أود الدفاع عن النزعة الاستعمارية الفرنسية ومساوئها، ولكننا لما كنا لا نستطيع تغيير التاريخ فينبغي أن نستخلص منه الجوانب الإيجابية لبناء مستقبل متناغم.
يقول الكاتب الجزائري كاتب ياسين إن الشعب الجزائري جعل من اللغة الفرنسية «غنيمة حرب»، وإنني أضيف إلى هذه الغنيمة اللغة العربية والثقافة العربية للشعب الفرنسي الذي نجد اليوم في عداده عدة ملايين من العرب والمسلمين.
إن الحقبة الاستعمارية الفرنسية أفرزت مجتمعا إنسانيا يعد ثروة ثمينة لفرنسا وللبلاد العربية. أنصح للفرنسيين أن يتعلموا العربية، وللسعوديين أن يتعلموا الفرنسية لكي يفهم الطرفان أن ثقافتينا تشكلان وجهين لعملة واحدة.
إن الفرنسيين اليوم فخورون بأسلافهم الغوليين، ولكن اللغة الفرنسية تحتوي اليوم على عدد من الكلمات ذات الأصل العربي أكثر مما تحتوي على كلمات من أصل غوليّ.
وفي حقبة أكثر بعدا عن الأسلاف ازدهرت النهضة الأوروبية بتمثل الثقافة العربية الكلاسيكية.
وفي زمن قريب أثمرت موجات الهجرة في مرحلة ما بعد الاستعمار نحو أوروبا ثقافة مشتركة فرنسية -عربية.
فرنسا والعالم العربي
أنت من المهتمين بدراسة العلاقات بين الثقافة الفرنسية والعالم العربي. كيف ترى تأثير الاستعمار الفرنسي على هذه العلاقات؟ وهل يمكن أن تعتبر الثقافة الفرنسية جزءًا من الثقافة العربية بناءً على أبحاثك؟
لقد خصصت كتاباتي إبان السنوات الأخيرة لدراسة ظاهرة غابت عن دراسات الفرنسيين، وعن الدراسات العربية؛ إنها مسألة إسهام كبار الكتاب والمفكرين الفرنسيين في القرن التاسع عشر الميلادي في إدراج الإسلام ضمن الثقافة الفرنسية الأكثر شهرة، من نابليون Napoléon إلى أرتور ريمبو Arthur Rimbaud مرورا بألفونس دو لا مارتين Alphonse de Lamartine, وألكسندر دوما Alexandre Dumas وفكتور هوغو Victor Hugo.
لقد أسهم كل واحد من هؤلاء الكتاب الكبار على طريقته في إثراء الأدب الفرنسي بمؤلفاته عن العرب والمسلمين ، حتى إنه يمكن للفرنسيين من أصل عربي أن يفخروا بأنهم أثّروا الثقافة الفرنسية، وعليهم أن يضمنوا لمواطنيهم من غير العرب انتماءهم لثقافتهم.
ولكن عصر الاستعمار كتم أنفاس الرسالة الإنسانية لهؤلاء الكتاب الكبار. إن ظاهرة معاداة الإسلام المعاصرة في فرنسا كانت في جانب كبير منها وليدة عصر الاستعمار. إن حملة نابليون بونابرت على مصر تبين بوضوح وجه التناقض بين جنرال يصرح أن «الإسلام هو أحسن الأديان»، ثم يفتك بالمسلمين الذين انتفضوا في وجهه. إن تاريخ الغربيين يقدم حتى يوم الناس هذا تكرارا محزنا للعنف الذي يكذب دعواهم عن حقوق الإنسان، لكن هذا لا يبطل صوابية ما قلته في هذا السياق.
اهتمام الفرنسيين بمدينة جدة
في كتابك «المملكة العربية السعودية من الذهب الأسود إلى البحر الأحمر»، كيف تصف التحولات التي شهدتها المملكة خلال العقود الأخيرة؟ وهل ترى أن النفط كان العامل الأهم في هذه التحولات أم أن هناك عوامل أخرى ساهمت في تغيير وجه المملكة؟
لقد ألفت كتابين عن مدينة جدة؛ أولهما: نصوص مختارة، وثانيهما: أيقونات فرنسية عنها. ولقد اكتشفت، واعترتني الدهشة لذلك، مدى الاهتمام المتمكن والمستمر الذي لقيته هذه المدينة من الفرنسيين مع أنها بعيدة عنهم، ولم يكن لهم أو لغيرهم سيطرة عليها في يوم من الأيام.
لقد وجدت الحديث عنها في عدة مئات من الكتب خلال قرن ونصف من الزمن. إذن، لقد اجتذبت جدة اهتمام الفرنسيين، وألهمت الكتَّاب والفنانين، بل إنها في بعض الأحايين أغرت مؤلفين لم يزوروها قط مثل فكتور هوغوVictor Hugo
لكل ذلك يطيب لي القول في ختام الحديث عن مؤلفاتي: إن هناك إرثا (فرنسي- سعودي) ينبغي علينا إعادة اكتشافه لبناء مستقبل مشترك. ويمكن القول في هذا السياق: إن فرنسا تركت آثارا واضحة في مدن البلاد التي استعمرتها، ولكن الحال هنا معكوسة لأن مدينة عربية مثل مدينة جدة لم تخضع لاستعمار قط تركت أثرا واضحا في الثقافة الفرنسية.
ولكن ذاكرة الشعبين الفرنسي والسعودي تحتاج إلى الترميم في هذا المجال. لقد طوى النسيان الذاكرة فغاب منها ذلك الماضي العريق الذي أحاول أن أذكرهم به.
والشكر موصول للصديق د.محمد خير البقاعي لمراجعته ترجمة الحوار.
** **
@ali_s_alq