إن بروز النساء في مواقع القيادة الفكرية والإبداعية في العقود الأخيرة، جعل المشهد الثقافي العربي يشهد مجموعة تحولات جذرية، حيث لم تعد المرأة مجرد متلقٍ أو هامش في الحركة الثقافية، بل أصبحت محورًا من محاورها الأساسية، وقوةً فاعلةً تسهم في تشكيل ملامح الثقافة المعاصرة، وإعادة صياغة مفاهيمها وتوجهاتها.
و لطالما لعبت المرأة العربية دورًا مهمًا في الحفاظ على الموروث الثقافي الشعبي من خلال الحكايات الشفوية، والأغاني، والحِرف، إلا أن هذا الدور ظل طويلًا غير مرئي في المؤسسات الرسمية، أما اليوم، فقد أصبحت المرأة في طليعة صنّاع المشهد الثقافي، كاتبة وشاعرة وفنانة وناشرة ومديرة ومسيرة مؤسسات ثقافية، ومبادِرة لمشاريع فكرية ومجتمعية، وهذا راجع إلى عدّة عوامل، من أبرزها التحولات الاجتماعية والسياسية، وكذا تزايد الوعي بدور المرأة والانفتاح الثقافي والعلمي ودعمها من خلال مؤسسات التعليم العالي والبحث، إضافة إلى تطوير وسائل الإعلام ووسائط التواصل الاجتماعي التي فتحت آفاقًا جديدة أمام النساء للتعبير والتأثير وكذا المشاركة في إثراء المشهد الثقافي والعلمي.
نساء في الواجهة وخصوصية التجربة
أصبحت المرأة اليوم تقود مشاريع ثقافية تطرح أسئلة جديدة حول الهوية، والموروث، والعدالة الاجتماعية، والجسد، والحرية، وتفتح مجالات النقاش حول موضوعات طالما كان مسكوتًا عنها، فقد نقلت المرأة الثقافة من مجرد منتَج نخبوي إلى فضاء حيوي متصل بالواقع، مُعاش ومتفاعل مع قضايا الإنسان اليومية. ومن خلال هذا نجد أنه قد برزت أسماء نسائية رائدة على امتداد العالم العربي، مثل مي زيادة وفدوى طوقان، غادة السمان، زهور ونيسي، آسيا جبار، رضوى عاشور، هدى بركات، رجاء عالم، فاطمة المرنيسي، أحلام مستغانمي وزينب حفني ولطيفة الزيات وغيرهن ممن أثرين المشهد الثقافي والادبي العربي نثرا وشعرا، إلى جانب نساء قمن بتأسيس مؤسسات ثقافية مستقلة، أو إدارة دور نشر وصالونات أدبية ومهرجانات سينمائية ومعارض فنية.
وإن ما يميز القيادة النسائية للمشهد الثقافي العربي ليس فقط تواجدها في مواقع القرار، وتسجيل حضورها رمزيا، بل أيضًا قدرتها على تقديم مقاربات مغايرة لما هو سائد، ومعالجة القضايا من زوايا لم تكن مطروحة سابقًا أو كانت تُهمّش عمدًا؛ فالكثير من النساء الكاتبات والفنانات لا يقدّمن فقط إنتاجًا إبداعيًا، بل ينخرطن في مساءلة عميقة لبُنى الثقافة التقليدية، ويخضن نقاشات شجاعة حول مواضيع ومفاهيم مهمة وحساسة على غرار تيمة الجسد، تيمة الحرية، تيمة السلطة، تيمة الذاكرة الجماعية، مما جعل مساهمتهن تتجاوز البعد الجمالي لتلامس القيم المجتمعية والفكرية الأعمق، هذا التوجه أضفى على المشهد الثقافي طابعًا أكثر انفتاحًا وتنوعًا، وأسهم في تكسير المركزية الذكورية التي طالما هيمنت على إنتاج المعرفة وتوجيهها.
نحو ثقافة تشاركية
إننا لسنا ضد القيادة الذكورية للمشهد الثقافي، ولا نطمح لإزاحتها أو معاداتها، بل نؤمن أن الثقافة، كفضاء إنساني جامع، لا تزدهر إلا بالتعدد والتكامل بين التجارب؛ فالقيادة النسائية لا تسعى إلى الهيمنة، بل إلى خلق توازن صحيّ يعيد الاعتبار للصوت النسائي ويمنحه مساحته المستحقّة، فحضور طرف لا يلغي وجود الطرف الآخر، بل يضفي على المشهد أبعادًا أكثر عمقًا وشمولًا، ويتيح إمكانات جديدة للفكر والتعبير، ترتقي بالثقافة العربية نحو آفاق أكثر عدلاً وإنسانية وازدهارا، فالحديث عن القيادة النسائية لا يأتي من منطلق التنازع أو الإقصاء، بل من منطلق التوازن والتكامل والسعي نحو ثقافة تشاركية منتجة ومستمرة لا تقزّم من دور المرأة وجهدها في القيام بالثقافة والعلم إلى أعلى المراتب، لأن تمكين المرأة ثقافيًا لا يُعد مكسبًا فرديًا، بل ضرورة حضارية تسهم في بناء مجتمع أكثر توازنًا وشمولًا.
وحين تتقدم المرأة الصفوف الثقافية، فهي لا تمثّل ذاتها فقط، بل تمثل روحًا جديدة، أكثر انفتاحًا وتسامحًا وإنسانية، في وقت تشتد فيه الحاجة إلى أصوات تنبثق من الجوانب الخفية والهامشية للمجتمع لتعيد التوازن إلى مركزه.
** **
- د.الريم حجوج