صدر كتاب «استئصال الذاكرة» (Mémoricide)سنة 2024 عن دار نشر «فايار» الفرنسية في حوالي 384 صفحة، وهو من تأليف الكاتب والسياسي الفرنسي فيليب دو فيليي (Philippe de Villiers).
في هذا الكتاب، يستعرض دو فيليي محطات مختلفة من حياته، انطلاقا من ذكريات عن مرحلة الطفولة، مرورا ببداياته السياسية، وأخيرا صراعاته الفكرية ضد ما يراه انحرافا عن ثوابت المجتمع الفرنسي الحديث.
يستعيد دو فيليي تجربته في تأسيس مدينة بوي دو فو (Puy du Fou) سنة 1978، باعتبارها نموذجا للاعتزاز بالتراث الوطني الفرنسي، اذ يُعد هذا المشروع، الذي اتخذ شكل منتزه تاريخي وثقافي في غرب فرنسا، محاولة منه لإحياء الذاكرة الجمعية من خلال عروض مسرحية تتناول فصولا من تاريخ فرنسا، تمتد من العصور الوسطى إلى الثورة الفرنسية، ضمن رؤية فلسفية تجمع بين البعد الجمالي والحفاظ على التراث الوطني.
يرى المؤلف أن استئصال الذاكرة الجماعية يمثل خطرا مباشرا على الهوية الوطنية الفرنسية. وبصفته شاهدا على التحولات الاجتماعية التي أثّرت سلبا على فرنسا، يُعبّر دو فيليي عن قلقه مما يعتبره نسيانا أو تجاهلا للجذور التاريخية والثقافية لفرنسا ويدعو إلى مقاومة التيار التقدّمي الذي يهدد القيم والتقاليد الفرنسية الأصيلة، ويطلق ضمن هذا السياق ما يشبه صرخة إنذار، محذرا من ظاهرة استئصال ذاكرة فرنسا التي يرى فيها محاولة منهجية لمحو التاريخ الوطني.
يتناول كتاب «استئصال الذاكرة» مجموعة من القضايا التي تشغل اهتمام الكاتب، من أبرزها مسألة الدفاع عن التراث والهوية الثقافية، وانتقاد ما يصفه بالتوجّه التقدّمي المفرط، إضافة إلى الدعوة لمقاومة ما يعتبره مظاهر دخيلة على المجتمع الفرنسي. ويسعى دو فيليي من خلال هذا الطرح إلى بلورة رؤية لاستعادة التوازن الوطني والتمسّك بالأمل من أجل صون استمرارية النموذج التاريخي والثقافي لفرنسا.
يستهل دو فيليي كتابه بإشارة رمزية إلى الحدث المثير للجدل الذي رافق افتتاح دورة الألعاب الأولمبية باريس 2024، معتبرا إياها تجسيدا لأطروحته حول استئصال الذاكرة الوطنية. ويحذر من أن فرنسا تتجه نحو هاوية أخلاقية وثقافية، قائلا: «لم نعد بعيدين عن سقوط الإمبراطورية الرومانية»، يتابع دو فيليي روايته بتساؤل يدور حول السبب في وصول المجتمع الفرنسي إلى هذا المنعطف الخطير خلال نصف قرن فقط، عبر سلسلة من القرارات السياسية والإيديولوجية.
في كتابه «استئصال الذاكرة»، ينتقد دو فيليي ما يسميه هيمنة الإيديولوجيات الأوروبية والعالمية وقوانين الهجرة، التي تحولت إلى نزعات ارتبطت بسياقات ما بعد استعمارية وثقافات مستوردة. كما يرصد آثار الرأسمالية المتوحشة التي جرّدت فرنسا من قاعدتها الصناعية، وتعمل الآن على تجريدها من زراعتها، مما يجعلها – في نظره – تتحول إلى أمة استهلاكية أكثر منها منتجة، وتبدأ تدريجيا بالخروج من التاريخ.
يتساءل دو فيليي بقلق عن مستقبل فرنسا، ويحذر بأنه إذا استمر المسار الحالي، فقد تشهد البلاد خلال عقد من الزمن انقساما داخليا بين مناطق يقطنها «شعب جديد من المهاجرين»، وأخرى تمثل ملاذا لشعب فرنسي من المسنين. ولهذا يعتقد دو فيليي أن الدولة الفرنسية فقدت قدرتها على الحماية، وأن المجتمع مقبل على مرحلة من الفوضى الأمنية يسود فيها الخوف وينتشر استخدام السلاح خارج اطار القانون.
يقدّم الكاتب في «استئصال الذاكرة» رؤية قاتمة لمجتمع يراه في حالة انحطاط أخلاقي وثقافي، وهو بهذا الطرح يحمّل المسؤولية لما يسميه بمظاهر تتعلق بالهجرة وبأسلمة المجتمع الفرنسي، بوصفها مؤشرات على انهيار حضاري وشيك. غير أن تركيزه المفرط على الإسلام والهجرة يشكل الجانب الأكثر إثارة للجدل في كتابه، إذ يعتبرهما عاملين يُضعفان الوحدة الوطنية ويؤديان إلى انزلاق التعددية الثقافية نحو صراعات داخلية.
في هذا الكتاب، يطرح دو فيليي نفسه مدافعا عن فرنسا التقليدية القائمة على القيم الأخلاقية والعائلية، كما أنه يعبّر عن أسفه لفقدان النقاش العام الفرنسي للعمق الفكري، وضمن هذا السياق، ينتقد المؤلف هيمنة منطق السرعة الذي تكرّسه وسائل التواصل الاجتماعي التي أفسحت المجال للسطحية والانفعال، وأصبح المشهد السياسي خاضعا لمنطق الاستعراض أكثر من الحوار والتأمل.
ختاما: يبدو أن كتاب «استئصال الذاكرة» يعتبر نصا قويا في لغته، متينا في بنائه، لكنه أيضا نص مثقل بنزعة تشاؤمية بمبالغته في رسائل التحذير. نعم، ان مخاوف الكاتب تعبّر عن قلق مشروع من مخاطر التمزق المجتمعي، لكنها تعاني من التعميم ومن النبرة التحذيرية التي تغذي خطاب الخوف وتقلل من إمكانات التعايش والتكامل الثقافي. الا أنه رغم ما يعتري دو فيليي من نزوع نحو التهويل، فإن كتابه يظل مساهمة منه لنقاش بناء حول مستقبل فرنسا وهويتها. ان هذه المخاوف تدعونا نحن القراء إلى التأمل في ذلك التساؤل الذي يختتم به المؤلف كتابه بشكل ضمني: ماذا بقي من فرنسا؟
** **
أيمن منير - أكاديمي وكاتب ومترجم مصري
ayman-mounir.webnode.fr