يعد الكاتب والناقد والإعلامي وأحد منشطي برنامج «صدى الإبداع» بالقناة الأولى المغربية محمد اشويكة، من بين المبدعين المغاربة الذين بصموا على تجربة إبداعية متميزة في الكتابة القصصية والبحث السينمائي؛ حيث أنتج العديد من الأعمال القصصية نذكر منها: «الحب الحافي» 2001، و»النصل والغمد» 2003، و»خرافات تكاد تكون معاصرة» 2003، و»الواو» 2023... وفي النقد السينمائي نذكر بعض أعماله: «الصورة السينمائية: التقنية والقراءة» 2005، «السينما المغاربية: قضايا الفرادة» 2017، «العرض السينمائي: تصورًا للعالم» 2018، «الصورة السينمائية: مستويات الفهم والتأويل» 2018،... وفي السيناريو السينمائي عدة أفلام قصيرة وطويلة نذكر منها: «بيدوزا»، و»الاحتضار»، و»قفل على القلب»، و»المشردون»... هنا نحاول مقاربة مجموعته القصصية «الواو» الصادرة مؤخرًا عن منشورات المتوسط بإيطاليا.
تحمل مجموعة «الواو» للكاتب المبدع محمد اشويكة خصوصيات وتفردًا على مستوى الخطاب واللغة، بل إن المحايث السردي في كل قصص المجموعة يحمل مزاوجة بين ما هو لغوي وما هو بصري، حيث تقابل كل قصة صورة فوتوغرافية لفنان فوتوغرافي مبدع. إن القارئ للمجموعة وهو ينتقل بين قصصها، ينتقل من أمكنة إلى أخرى، من لغة إلى لغة أخرى، من صورة مثيرة رامزة إلى صورة مؤثرة صريحة تدفع به إلى المغامرة في القراءة ودخول لعبة السرد مع الكاتب نفسه. فقصص المجموعة تمتزج مع الصور الفوتوغرافية المختارة بعناية كأنها مفتاح للنص ومدخل دلالي لفهمه وتأويله.
إن زمن كتابة القصة مختلف عن زمن أخذ الصورة، ولا نعرف من السابق ومن اللاحق بينهما، وهل تمت كتابة القصص وفق ما تحمله الصور من دلالات ومعاني تخدمها؟ أم أن الصدفة كانت هي الغالبة؟ فقراءة الصورة توحي بأن الكاتب قد مارس عملية الكتابة تحت غواية المتعة البصرية والإغراء الجميل الذي تحمله كل صورة على حدة. إن الصورة قد أغنت النص القصصي كمادة فنية تقول الكثير، وتدعو القارئ إلى التفكير مليًّا أثناء مشاهدتها وحل أسرارها وتفكيك شفراتها، بمصاحبة النص وما يحمله من أحداث ومواقف ومعطيات شارحة بشكل أو بآخر.
تفتح قصص المجموعة خطوطًا متوازنة ومتوازية تكشف عن توجهات إبداعية جمالية وفكرية وفلسفية تفسرها الصور المختارة بعناية شديدة، وكأنها تقول بأنها تشرح هذه النصوص وتحدد أساليب تحليلها للقارئ للوصول إلى المعنى. يقول الكاتب في قصة «الدرّاجة والشّرخ..»: «تحركتُ ببطء بتحرك الصوت الغريب ببطء أيضًا، استدرتُ، بلطف فلم أرمقْ شيئًا، خمنتُ في قرارة نفسي أن الأمر مجرد تهيؤات، فلطالما حدثنا علم النفس عن مثل هاته الحالات، انتقلتُ إلى الجهة الأخرى من الزقاق، كي تتمتع أصابع اليد الأخرى بملاسة الحائط المغرية، وتحقيق لذة مداعبة الشقوق والفتحات» (محمد اشويكة، الواو، قصص، منشورات المتوسط، إيطاليا، ط. 1، 2023).
يعتمد محمد اشويكة في قصص مجموعته على تقنية التداخل الذي يتمثل في دمج القصة في الصورة، أو دمج الصورة في القصة لا فرق؛ حيث ينسج تلك المفارقات التي تبرز بينهما بلغة شعرية غنية لها حمولاتها الفلسفية والفكرية والثقافية. إنه يترك للقارئ مساحة شاسعة يتخيل من خلالها بداية الكلمة ونهاية الصورة، أو العكس؛ تلك النهاية التي تأخذه إلى فهم النصوص وارتباطها الدلالي والرمزي بالصور. وتبرز في النصوص البراعة في استخدام اللغة السردية بشكل جمالي تعبيري يحقق المعنى ويوصل القارئ إلى التأويل الجيد لما يقرأه.
لا يكتب اشويكة القصة من أجل إمتاع قارئه فقط، بل من أجل الفائدة والإضافة المعرفية والتوعية بالواقع وصوره السلوكية والثقافية والاجتماعية، مثل: الحب، الكره، الحزن، الحقد، الهشاشة، الجهل، الغباء، التخلف، التفكير، الجنس، المتعة، اللذة، الشك،... يقول في قصة «المرأة والصحن...»: «ذهبتُ إليه حاملًا صحني، لأن زيارته تشترط الإتيان بصحن يختاره الزائر. يفترض صاحب المكان العامر بالصحون والمزهريات والتماثيل الصغيرة وبعض الأواني والمصنوعات الخزفية المتنوعة والمحدودة... أن يأتي به الشخص يتضمن جزءًا من شخصيته الغابرة والمجهولة» (نفس المصدر، ص. 49).
تتميز لغة قصص المجموعة كلها بالجمل القصيرة المتلاحقة في سرد الأحداث ووصف المشاهد والتفاصيل، حيث تجعل القارئ يتخيل ما يقرأه كأنه يشاهد فيلمًا سينمائيًا أو مسلسلًا تلفزيونيًا، نظرًا لما لهذه الجمل من رمزية ودلالات إيحائية مرتبطة بالسرد وأحداثه وشخصياته وفضاءاته وأزمنته المتعددة. إن قصة اشويكة في مجموعة «الواو» تعيد محاكاة الواقع وتشكيله باللغة من أجل توعية القارئ بنكباته الصغيرة المثيرة، وبمتاعب الحياة الشخصية، وبالتحولات الكبيرة على مستوى المجتمع والعالم والإنسان، إنه أمام مرآة عاكسة لقوة اللغة السردية في الوصف والسرد والتعبير.
يرى رولان بارت أن دور الفن هو الامتناع عن التعبير عن المعبَّر عنه، وهو انتزاع لغة حقيقية من لغة العالم التي هي لغة الانفعالات الفقيرة والقوية، حيث إن اللغة التي يستخدمها الكاتب واضحة وجديدة على مستوى اللغة السردية في القصة القصيرة، وكأننا إزاء سلطة لغوية تكيّف رغبات الكاتب وفق ثقافته الفلسفية والفنية التي تحكمه بالدرجة الأولى. ولقد اكتسبت لغة النصوص وسياقاتها أبعادًا اجتماعية وثقافية وفلسفية نلمس منها كفاءة مهمة في الكتابة القصصية، اجتهد من خلالها الكاتب بقواعد الإبداع القصصي وقوانينه مع تميزه في اختيار الجمل القصيرة المتسمة بالشعرية والتكثيف والاختصار والاقتصاد في العبارات المكونة لهذه الجمل.
تكتفي سياقات السرد القصصي في المجموعة بتسجيل المواقف الإنسانية، واستحضار الرؤية الشخصية للكاتب للعديد من الصور المعبرة عن المشاعر والأحاسيس والآفاق والتحديات الإنسانية. حيث يقول مثلًا في قصة «اليد والظلام»: «سمحوا بأن ترى يدي النور، لا يهمهم وجهي، ولا أن أرى العالم ويراني، لم يتساءلوا عن وضعية ما لا يظهر من جسدي. ظنوا أن الظلام قبر، واللمس تعثُّر، والعزلة سجن. لم أتعود في البداية على مثل هذه الوضعية، وأنا التي اعتادت العيش في أنوار الحياة، وصناعة العتمات، والالتحام في البياض والسواد. حينما تخرج يدي، فإنما لتتحسس الأجسام والأشياء، وأن تفصل بين الضار والمفيد منها» (ص. 77).
يلملم محمد اشويكة في نصوص المجموعة القصصية «الواو» أجزاء الواقع المبعثرة ليهدم بها الواقع المتخيل وأسواره المهترئة من أجل تحقيق أحلام شخصياته وغاياتها الممكنة التحقق. هناك، في كل النصوص، فضاءات مفتوحة تدل على مكامن الحياة المأزومة وعلى الهشاشة الاجتماعية والمعرفية التي لم تنتج إلا المعاناة والهموم والأحزان. إن الكاتب يجترح في قصصه ممكنات رمزية ودلالية للالتفاف على الواقع الأعمى الذي تعيشه الشخصيات حيث تحاول جاهدة التنصل منه والتحلي بهويات أخرى مختلفة تمنحها إمكانيات للعيش وممارسة الحياة.
ويستشرف الكاتب في نصوصه حياة مختلفة لفائدة من يكتب عنهم، وتطلعات تعيد صياغة حياة الهامش والضجيج، والشرخ، واللطخة، والانطواء، والصدى، والظل، والجرف، والعجز، والظلام، والضباب، والدخان، والقناع، والغول،... إلى حياة جديدة تهدف إلى السعادة، والامتداد، والحرية، واليد العاشقة، والخط الجميل، والأثر الطيب، والخطوة المفيدة، والمرأة المحبة، والرمانة المفتوحة، والماء الصافي، والبحر المنعش بمائه، والحمامة البيضاء، والوردة المزهرة، والمدينة الطاهرة النقية،... هذه المتقابلات تُعد مناصات تحقق علاقة رمزية بين المكتوب والمصور في أبعادها الدلالية والتأويلية المحققة للمعنى في أرقى تجلياته.
يتحرر محمد اشويكة في جلّ نصوص المجموعة من قيود الكتابة القصصية الصارمة، حيث تتداعى فيها أسئلة الإبداع والتعبير عن اللحظات الخاصة للشخصيات، ووجهات نظرها المستمدة مما يؤمن به كمبدع مفكر. إنه ينصت إلى ذاته الكاتبة وإلى أفكاره عن الحياة المجتمع والناس، وعن علاقة الفرد بالآخر في مجتمع يعيش صور الهشاشة والتخلف في العديد من المواقف والسلوكات والتعبيرات الثقافية والاجتماعية والشعبية. إن نصوص المجموعة منجزات للأسئلة المحيرة والغامضة تستنبط غموضها من عناوينها ولغتها الرامزة ومن الصور الفوتوغرافية التي توحي للكاتب بالإبداع التخييلي والتحرر من قيودها السردية البصرية والرمزية.
يلجأ الكاتب في نصوصه إلى حِيَل كتابية متعددة تتمحور حول فن القصة القصيرة على المستوى السردي واللغوي، حِيَل قد لا تعجب البعض من سدنة الكتابة القصصية، خاصة وأنه يستخدم أساليب مختلفة تفاجئ القارئ على مستوى السرد وقواعده المعروفة وقوانينه الصارمة. إنه يترك للقارئ حرية الوصول إلى المعنى من كل قصة انطلاقًا مما يقرأه ويشاهده في الوقت نفسه؛
** **
عزيز العرباوي - كاتب وناقد من المغرب