النجاح الجماهيري لروايات الروائي السعودي أسامة المسلّم أمر يستحق الدراسة والملاحظة، ظاهرة ثقافية تتعلق بالقدرة على صناعة المعنى الأكثر تأثيرًا في التخييل السردي، وصناعة القارئ الخاص المشترك في تأويل سيرورة الحكاية. وعليه؛ كان السؤال الذي يحاول سبر أغوار نجاح تجربة المسلّم الروائية:
كيف فعلها أسامة المسلّم لوحده دون تأييد ظاهر من الساحة النقديّة؟
في التأمل المتواتر حول ظاهرة الازدحام لتوقيع روايات المسلّم من قبل قرّاء يستميتون للوصول إليه في شتى معارض العالم العربي نستطيع القول بأنه استطاع الحفاظ على قارئه وجذبه باستمرار إلى متابعة مسار حكاياته العجيبة، إن قارئ روايات أسامة المسلّم يمتلك موسوعته القرائية الخاصة، والتي تحمل طابعًا تسلسليًا ومتواترًا فانتازيًّا، وبذلك يكون المسلّم قد حقق ملامح وأبعادًا قارئة الأنموذجي كإستراتيجية نصية -كما اصطلح على تسميته الناقد الفرنسي بول ريكور في كتابه الموسوم بـ(القارئ في الحكاية)-، فقد أثث هذا القارئ عوالمه الممكنة باعتبارها أبنية ثقافية بعد عقد صلته بصحة تخميناته وتوقعاته ومعطياته المعرفية التي اختزلها من الاطلاع الجيد والمستمر لروايات المسلّم. فهذا القارئ الأنموذجي يمتلكَ قرائيَّة لغوية وغير لغوية تساعده في تفكيك بنيات النَّص وإعادة تأويله من خلال رصد العوالم الممكنة في الرواية، التي جاء ذكرها عند جيرار جينيت بوصفها عوالم تخييلية تُسهِم في مجال الأدب، ولكن إيكو قدَّم مفهومًا جديدًا في العوالم الممكنة، وهو مفهوم دقيق يبين اختلاف اشتغال مفهوم العوالم الممكنة في السرد عن اشتغاله في مجالَيِ المنطق والفلسفة، مؤكِّدًا أن ما يهم عند اشتغال مفهوم العوالم في السرد لا يتعلق بالتساؤل حول الوجود الواقعي للأشياء والأفراد، بل يتعلَّق بموسوعة القارئ. أي تتحدد هذه العوالم الممكنة بواسطة القارئ/ المتلقي وخلفياته الثقافية والمعرفية وهذا مما يجعل النصوص تمتلك سلسلة لا منتهية من قراءات القرّاء الأنموذجيين وفي هذا يقول إيكو: «إنّ كلّ قراءة تعيد الحياة للنّص وفق منظور معيّن أو ذوق أو إنجاز شخصي (personnelle Exécution)».
كما يمكننا على هذا الأساس الانتباه إلى قدرة المسلّم في الحفاظ على منطق الحكاية وسيرورتها السردية في تصنيفه كمؤلف أنموذجي يقدم فرضيات تأويلية تسمى إمكانات النص من خلال إستراتيجيات نصية؛ ليثير في قارئه الأنموذجي ذي المرجعيات الثقافية الخاصة الرغبة في التقاط هذه العلامات؛ ليعيد بنائها، وهو ما اصطلح بتسميته ملء فراغات النص، وذلك بتحيينه تلك البياضات من خلال فعل القراءة.
إن المسلّم أستطاع أن يفسح الطريق لقارئه في كل رواية يصنعها؛ فيشاركه بتأثيث محكياته الخاصة وتوقع مسار الحكاية استنادًا إلى ما توفره موسوعته من عوالم حكائية ممكنة.
هذا التحرك الدينامي الحيوي في روايات المسلم بدءًا من رواية خوف التي تدور حول عوالم الجن والخرافات المنتشرة حولها؛ قد استقطب جيلًا متعطشًا لملامح الواقعية السحرية، والتي صيغت بأسلوب سلسٍ وسهل مما يعني انتشاره بشكل أوسع، فروايات رجاء عالم تدور في فلك الواقعية السحرية، لكنها لم تنتشر عند جيل الشباب كما فعلت روايات المسلّم؛ فاللغة التي تكتبها بها رجاء عالم موجهة للنخبة، ولغة المسلّم تستهدف جيل الشباب الباحث عن اللغة المباشرة والعوالم المبهمة والساحرة، مما يتيح ضمان استمرارية وجود قارئه الأنموذجي وتمكين حضوره داخل النصوص.
كما أن التتابع في سرد الحكاية من خلال أجزاء عزّز مفهوم الحفاظ على قارئه الأنموذجي، فرواية خوف كانت على ثلاثة أجزاء أولها عام 2015 وثانيها عام 2018، وثالثها عام 2022. واستمر المسلّم في تثبيت قاعدته الجماهيرية وتكثيفها من خلال إنتاج المزيد من هذا النسق الفنتازي السحري؛ ففي رواية عربستان المكونة من ستة أجزاء نجده يضاعف معطيات قارئه حول إشكالات السحر وتراجيديا الشعوذة والرعب في أتون تاريخي يضفي مزيدًا من جاذبية السرد ومداخيل أسرار هذه العوالم، وهنا نلحظ ذكاء المسلّم كمؤلف في استمرارية إشراك قارئه لإعادة بناء القصديات الضمنية من جديد، وذلك من خلال نشاطات فرضية لعوالم سحرية وأفق توقعات أعلى وأرحب، وتفكيك الأبنية بما يمتلكه من موسوعة قرائية خاصة بروايات المسلّم، وقدرة ملحوظة لفك شفرات النص لاستيعابه المتكرر للنسق النابع منه.
ومما لا شك فيه أن الخبرة المتواترة في كتابة هذا المحتوى، والمران على الحبكات الفانتازية، والتواصل المباشر مع الجمهور، وتواضع الكاتب الملموس مع قرائه، وسعة أفقه، وحاجة الجماهير لمثل هذا النوع قد حققوا للمسلّم القدرة على توظيف هذا النسق بنجاح، واكتساب قاعدة جماهيرية كبيرة على مستوى الوطن العربي.
** **
- د.أميرة المحارب