شكَّلَت مبادرة د.عبد الله الغذامي مشروع النقد الثقافي في المنطقة العربية من حيث نشأته وتأصيله وتنظيره وتطبيقه لنقد الأنساق في كتاب: (النقد الثقافي: قراءة في الأنساق الثقافيَّة العربية)، وسأحلل القضايا الفكريَّة والأدبيَّة والاجتماعيَّة للثقافة العربيَّة في ضوء هذا المفهوم.
استهل الغذامي كتابه: (النقد الثقافي: قراءة في الأنساق الثقافيَّة العربية) بمجموعة من التساؤلات، تمحورت حول إمكانية أن تكون الحداثة العربية حداثة رجعية، وعن مدى جناية الشعر العربي على الشخصية العربية، والعلاقة بين الفحل الشعري وصناعة الطاغية؛ إذ تمحور مشروع الغذامي في شعرنة الخطاب العربي الذي قام منذ القدم على اختراع الفحل وتزييف الخطاب وصنع الطواغيت.
كما تتمثل أهمية مبادرة الغذامي من حيث التنظير والتطبيق في أنه سعى إلى إبراز فعل النسق في كشف عيوب الخطاب الشعري؛ إذ اقترح إجراء تعديل في نموذج ياكبسون لوظائف اللغة بإضافة عنصر سابع أطلق عليه (العنصر النسقي)، وبذلك ستكون للغة وظيفة سابعة وهي الوظيفة النسقيَّة، وأعلن بشكل صريح وعلني موت النقد الأدبي وإحلال مشروع النقد الثقافي مكانه؛ ذلك لأن النقد الأدبي -بحسب قوله- غير مؤهل لكشف الخلل للثقافي، وكان ذلك بمنزلة دعوة علنية لإعادة النظر في التعامل مع القول الأدبي بوصفه حادثة ثقافيَّة وليس نصًّا أدبيًّا خالصًا.
وتوصل الغذّامي إلى رؤية نقدية في التقعيد والتطبيق في الثقافة الغربية، بحيث مكنته هذه القدرة من التحليل والتفسير والشرح والمقارنة في كتابه «النقد الثقافي: قراءة في الأنساق الثقافيَّة العربية».
فالغذامي اكتشف لعبة اللغة وحيلها التي شكلت خلفها مرجعيات ثقافيَّة مدة طويلة تصل إلى قرون مستندًا في ذلك على المصطلحات الغربية، وانطلق الغذامي في مشروعه النقد الثقافي والدراسات الثقافيَّة من مبدأ الكشف عن العيوب النسقيَّة في بيئتنا العربية، وهي عنده بدت أكثر دقة وتنظيمًا وأقرب إلى اللغة العلمية، أكثر مما نجدها عند الوردي.
وفي هذا الإطار، يظهر أهمية النقد الثقافي عند الغذّامي في إبراز هذه المعتقدات التي انبنت عليها مواقف من المواضيع والمسائل المستحدثة على السطح، ثم مناقشتها لفهمها وتقويمها.
يتضح ذلك من خلال ذم الشعر استنادًا على الآية الكريمة:
(وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) وقد أتى بها الغذامي من ناحية منهجية؛ إذ وصف اللافاعلية في (ما لا يفعلون) بأنها أحد عيوب الخطاب، معللًا بأنها تسلب من اللغة قيمتها العملية في فصلها بين القول والعمل، كما أنها ترفع عن الذات مسؤوليتها عما تقول.
وأسهمت قراءة الغذّامي الثقافيَّة في كشف أنساق لغوية وثقافيَّة مشبعة بالتاريخ والأيديولوجيا تركَّزَت في الشعر وتغلغلت في أعماقه، ثم خرجت على شكل أنماط من السلوك المجتمعي تداوَلَها جيلٌ بعد جيل، وقد أسّسَت في ثقافتنا عيوبًا نسقيَّة، كشف الغذامي أنها كانت السبب وراء عيوب الشخصية العربية ذاتها، وحاول من خلال نقده أن يكشف عيوب الأنساق المضمرة ولعبتها وحيلها في تمرير ظاهرة الشعرنة التي أدت في النهاية إلى صناعة الفحل الشعري، وقد تحولت فيها البلاغة والمجاز والاستعارة إلى توريات واُستعملت كأنها حقائق، فأخذ الشاعر يصدق بما يقول، والممدوح يطرب لما يسمع، حتى تحولت سلوكياتنا إلى مجازات بعيدة عن الواقع والمنطق، وبذلك فقد الشعر المسؤولية الكبرى عن هذا الفعل؛ بوصفه الوسيلة الإعلامية الأكثر تأثيرًا في نفوس العرب.
وبناء على تلك المعطيات يشير الغذّامي إلى النسق وأهميته بوصفه قوة وسُلطة وهيمنة تُحتِّم علينا النظر إلى النص بوصفه حادثة ثقافيَّة وليس مجتلى أدبيًّا فحسب، ويعدُّ أن كل خطاب يحمل نسقين: مضمرًا ومعلنًا، والنسق المضمر أكثر ثراء من النسق الواعي؛ إذ إنه يشمل كل أنواع الخطابات من أدبية وغيرها، وتكمن خطورته في الخطابات الأدبية أكثر، ووفقًا لذلك تتحقق الوظيفة النسقيَّة في النقد الثقافي حينما يكون هناك تعارض بين النسقين (الظاهر والمضمر) بشرط أن يكون ذلك في نص واحد، سواء كان جماليًّا أو جماهيريًّا منبثقًا في الخطاب بفعل النموذج الثقافي الشامل.
تمثلات النسق الثقافي عند الغذامي.
وقد أشار الغذامي في صدور أول مؤلفاته «الخطيئة والتكفير من البنيوية إلى التشريحية» زلزالًا في المشهد الثقافي السعودي، ولاقى هجومًا شنيعًا من المحافظين والتقليديين، وذلك مما نجده في حديث الغذامي في قوله: «وهذا هز كل شيء في المجتمع، ونتجت عنه ثورة عنيفة مضادة لهذا التيار الحداثي الذي أعلن عن نفسه بجرأة وتصميم، وقامت معارك امتدت من الصحف إلى منابر الجوامع وأشرطة الكاسيت والكتب، وبدأت حملة تشهير اجتماعيَّة شاملة مع اتهامات بالخيانة والماسونية والعلمانية والتغريب، ومعها تشكيك بالأشخاص في دينهم ووطنيتهم وأمانتهم العلمية، وتعرض البعض لخطر شخصي وتضرر كثير وعم ذلك لمدة عقد كامل»، هذا ولم يسلم صدور أي جديد يتعلق بزلزلة البيئة الثقافيَّة الراكدة خصوصًا البيئة العربية من النقد، فقد خص الموسوي الموقف العربي من الحداثة في قوله: «بقيت نزعة التحديث العربية لمرحلة ليست قصيرة رهينة الدفاع عن التاريخ والهوية الدينيَّة إزاء اتهامات الآخر».
في ضوء ذلك تبدت معارك النقاد الحداثيين مع التيار التقليدي المناوئ للتغيير والتطور، وسعى بعض المحافظين إلى إقحام الدين في مواجهة الحداثة بغية إقصاء كل جديد، فجنحوا إلى إيجاد نقطة التقاء بين الشعر وقدسية الدين، ونثروا عددًا من الأدلة النقلية والعقلية التي تدعم أقوالهم، فبموجب الانتماء لذلك الموروث الممتد منذ الشعر الجاهلي بوصفه مادة اللغة العربية ومقوم سليقتها، وبصفته سجل وجودها التاريخي والثقافي والمبين عن الغريب والمشكل من القرآن من خلاله؛ ونتيجة لتلك العوامل اتصل بالدين فخلع عليه ثوب القدسية؛ كما قال ابن عباس: «إذا سألتموني عن شيء من غريب القرآن فالتمسوه في الشعر، فإن الشعر ديوان العرب، أي: أصله»، وقد كان ذلك كافيًا إزاء هذه المعطيات في جعل الشعر بمنزلة الحاجز الذي لا يمكن نقده أو حتى التعاطي معه، على نحو ما يذهب الغذامي في قوله: «لقد اكتسب الخطاب الشعري حصانة وقداسة جعلت نقده ضربًا من المحرمات الثقافيَّة بحجة تعالي الشعريَّة وخصوصيتها وتفردها مما يقتضي التعامل معها بخصوصية»()، وانطلاقًا من هذا البعد فإن أي محاولة نقد تمس هذا الموروث القومي والذي اصطبغ بصبغة قدسية وقيمية فإنها ستصطدم بسيل عارم من الانتقادات والاتهامات كما حصل مع الوردي والغذامي ومن قبلهم كثير، والشيء بالشيء يذكر.
لقد تبنّى الغذّامي مشروع النقد الثقافي، فذهب في نقده الثقافي إلى تحرير المصطلح من قيده المؤسساتي وهو شرط أساسي؛ لتحرير الأداة النقدية، وقد مكنه ذلك من إجراء نقلة نوعية في مفهوم النسق وهيمنته في مؤلفاته: «النقد الثقافي: قراءة في الأنساق الثقافيَّة العربية»، و»نقد ثقافي أم نقد أدبي»، و»الجنوسية النسقيَّة: أسئلة في الثقافة والنظرية»، وينحصر هذا النقل تحديدًا في توظيف الأداة النقدية التي كانت أدبية ومعنية بالأدبي/الجمالي، وتوظيفها توظيفًا جديدًا لتكون أداة في النقد الثقافي، وهذه النقلة من الأدبي إلى الثقافي تشمل ستة أساسيات اصطلاحية ستشكل المنطلق النظري والمنهجي لمشروع النقد الثقافي عند الغذّامي، وهي:
• عناصر الرسالة (الوظيفة النسقيَّة).
• المجاز (المجاز الكلي).
• التورية الثقافيَّة.
• نوع الدلالة.
• الجملة النوعية.
• المؤلف المزدوج.
ووفقًا لتلك الرؤية اقترح الغذامي إجراء تعديل أساس في نموذج الاتصال عند ياكبسون، وذلك بإضافة عنصر سابع أطلق عليه (العنصر النسقي) إضافة إلى عناصر الاتصال الستة، وبهذا الإجراء يذكر الغذّامي أن اللغة ستكتسب وظيفة سابعة هي الوظيفة النسقيَّة، إضافة إلى وظائفها الست الأولى المرتبطة بالعناصر الستة، وهي النفعية والتعبيرية والمرجعية والمعجمية والتنبيهية والشاعرية (الجمالية).
وبيّن أن الشعر بالرغم من وجود صفات أخلاقية وجمالية فيه ينبغي تعلمها فإن له صفات أخرى لها من الضرر ما يجعله أحد أسباب عيوب الشخصية العربية، فشخصية الشحاذ والمنافق والطماع، وشخصية الفرد المتوحد فحل الفحول ذي الأنا المتضخمة هي سمات مترسخة في الخطاب الشعري، ومن ثَمَّ أصبحت نموذجًا سلوكيًّا ثقافيا يعاد إنتاجه بما أنه نسق منغرس في الوجدان الثقافي.
لقد اتجه الغذّامي إلى تفضيل اللفظ، ثم البديهة من حيث ارتباطه بالأصل التكويني للشعر من حيث هو شفاهي، ولتوضيح ذلك ذكر الغذامي في حديثه أن الشاعر رحال لا يقر في مكان ولا أرض، والشعر كائن بدوي، والكرم والشجاعة لديه قيمتان مركزيتان في النظام القبلي، والشاعر البدوي شاعر جماعة، والذات الشعريَّة لديه هي ذاتها الذات القبلية (النحن القبلية)، وأورد دريد بن الصمة مثالًا نموذجيًّا دالًّا ينص على اندماج الفرد بالجماعة اندماجًا كاملًا، وهو وإن رأى قومه على خطأ فإنه يظل معهم ولا ينشق عليهم، وعبر عنها الغذامي بأن ذلك قيمة في السلوك الجمعي الواعي، وهو موقف ديمقراطي يغلّب رأي الرعية وخيار الجماعة على رأي الفرد ورأي الزعامة، وأشار إلى أن هذه القيم الإنسانية لها علاقة فعلية بالشرط الثقافي للقبيلة، فالكرم والشجاعة كلها تجتمع لتشكل النظام الاجتماعي والوجودي للقبيلة، بيد أن النسق الثقافي عند الغذامي تمخض عنه شيء غير ذلك كله!
ويعود السبب في نظر الغذامي إلى ظهور الممدوح عن طريق ظهور الملك، واعتلاء كرسي الحكم، وليكتسب وجاهة خاصة فلا بد أن يشتري صفات القيم القبلية كالكرم والشجاعة ودفع المال من أجلها، وتحول الشعر من خلال الشعراء إلى الأغراض النفعية، وجرى اختراع فن المديح، وأصبح الشعر لا ينبعث في الخيال إلا عبر أسباب الرغبة أو الرهبة، والعطاء يكون رغبة في الثناء ورهبة من الذم، وفي رأي الغذامي تحول الكرم من قيمته الإنسانية والأخلاقية إلى قيمة فردية نفعية، ووصف ذلك بأنه تحول في منظومة القيم العربية كلها، ونتيجة لذلك تشعرنت الثقافة وأصبحت صورًا شعريَّة تحمل كل عيوب الشعر، واستشهد بكرم حاتم الطائي مثالًا على التغيير القيمي لفعل الكرم، وهو شاعر اشتهر بكرمه في العصر الجاهلي، وذكر أنه في شعره ظهرت القيم النسقيَّة في علاقة السمعة بالعطاء، وفي توظيف اللغة لمصلحة المجد الفردي، وذكر الصراع بينه وبين زوجته اللوامة على تبذيره في العطاء، ويرد عليها زوجها بقوله:
أماوي أن المال غاد ورائح
ويبقى من المال الأحاديث والذكر
وبناء على تلك المعطيات يفضي بنا ذلك إلى القول: لقد نقل الغذامي الشعر من دائرة التذوق الجمالي إلى فضاء أوسع، حيث يُقرأ النص بوصفه حاملاً لسلطةٍ خفية، تكشف عن الأنساق التي تتحكم في الوعي الجمعي، وتعيد إنتاجه، وأسَّس ملامح مشروع النقد الثقافي في العالم العربي، وواصل الغذامي هذا المسار عبر أدوات النقد الأدبي، كاشفًا من خلال مفهوم النسق المضمر عن القوة المتخفية التي تؤثر في حركة الشعر، وتعيد تشكيل ذائقته واتجاهاته.
** **
- د. شيهانة سعيد الشهراني