تلك الحكاية الهاربة ما زالت تلجّ في ذهني وتصخب لذّة نومي، تهطل عليّ في موعد لا تُخطئه، إذ تنزّ عادة في الظلمة من بين كل الحكايات والكلمات لتصبّ وجعها وتفرّ بسرعة مذهلة، ومهما بلغتْ شدّة إرادتي وتصميمي فلن أفلح في القبض عليها وتفتيتها إذ كانت تملك براعة شيطانية في الولوج والخروج.
استعنتُ بذوي الخبرة والأطباء وأهل الرأي، لكن لا أحد منهم استوعب المشكلة تماماً، لذا فقد قلّبوا أيديهم وأرخوا شفاههم دلالة القنوط.
ليل سرمد طويل قطعته والحكاية الهاربة تتبعني وتقتنص لحظات هنائي لتقذف في جوفها عفن قديم، فتفسدُ لحظاتي، وتقمع أيّامي.
وفي غمرة إرهاقي لاح لي ثمّة فجر آتٍ من بعيد، انتظرته حتى انبثق في صدري وشعّ، فاصطدت تلك الحكاية الهاربة من براثن زمن قصي.
ورغم شدّة حرارتها اللاهبة ورائحتها العفنة إلا أنني استطعتُ بتصميم أن أقلّبها بين يديّ لأختبر مواضع قوّتها ومكامن عفنها.
فهالني منها حركة غريبة وانتفاضة معاندة، فشددتُ وثاقها وأرخيتها في صدري.
مضت لحظات وأنا أشاهد تناسل الحكايات السود من فمها، وكل حكاية تأخذ بزمام حكاية أخرى حتى وصلت السلسلة إلى ثلاثين عاماً وأربعة شهور وخمسة أيّام مضت.
عدنا إلى موطن نشأتها وأصل سلالتها في مهاوي الزمن.
حدث في ذلك اليوم أمرٌ فظيع، فظيع جداً، أرهقني وأتلفني زمناً طويلاً، فلم أجد بُدّاً من الفرار منه، ولمّا كان متسلّطاً جالباً في كلّ مرة أمشاج الندم والحسرة كي تُمعن في تأنيبي، فقد عمدتُ إلى حيلة اعتياده، بل وجلبه للتلذّذ به كذكرى قاسية عابرة، وما دامت ماضية في سهوب النسيان فستتلاشى بمرور الأيّام، كنتُ حاذقاً إذ أكثرتُ المساس بها مراجعة ونشراً لذا فقد بلّدت الإحساس بها، وهذا كان انتصاراً أفتخر به أمام نفْسي.
في سني عمري الأخيرة لم ألتفتْ كثيراً لهذه الحكاية القديمة الموجوعة التي أنهكها الزمن، ولم أعلم أن جذوتها ما زالت متّقدة وأنّ أورها يتصاعد ببطء موجع.
استسلمتُ الآن لذلك السخط القديم، وبدأت الكرّة من جديد بعد أن أوصلتني سلسلة الحكاية الهاربة إلى موطن نشأتها مرّة ثانية.
** **
- عبدالكريم بن محمد النملة