استقر الدرس العلمي الحديث المهتم بمسارات الذكاء الاصطناعي على تعريف وظائفه بأنها «محاكاة للذكاء والتفكير والسلوك واتخاذ القرار من قِبَل الإنسان، عبر أنظمة كمبيوتر معقدة، ولا تعمل فقط عبر خوارزميات محددة، ولكن يجب أيضًا أن يكون هذا النظام الإلكتروني قادرًا على تصنيف وجمع وتحليل البيانات، ومن ثَم التعلم واتخاذ القرار بما يحاكي نمط التفكير لدى الإنسان» (عبدالصادق، 2023، ص17).
ومع مُضِيّ الوقت، وسرعة التحديثات في أدوات الذكاء الاصطناعي، خاصة في أنساق الكتابة وأساليب التعبير، توجه كثير من الطلاب والباحثين للاعتماد على تلك الأدوات في إنشاء أبحاثهم، وضبط الصياغة والأسلوب، مدفوعين بحالة من الكسل العلمي والاستسهال في الإنتاج، وهو ما فرض حالة من النمطية اللا واعية لدى الباحثين والطلاب؛ حيث أدى تكرار الاعتماد على الروافد الاصطناعية في الكتابة إلى تشوه تدريجي لدى صاحب المادة العلمية، وقد بدأ هذا التشوه خفيًّا، ثم صار ظاهرًا الآن، يمكن لمسه ومطالعته في التركيبات المستهلكة المكررة لدى تلك الفئة.
آفة التخندق الإدراكي
ورغم ما لأدوات الذكاء الاصطناعي من إيجابيات كثيرة في أوعية الكتابة واللغة وإرفاد الطلاب بمواد علمية جيدة ومنظمة، لكنها في الوقت نفسه -إذا أسيء استخدامها على الصورة المذكورة- تُجمِّد المساحة التعبيرية البشرية، وتجعل الجميع نسخًا مكررة، والأساليب آلية رتيبة متشابهة، وتضع الباحث العلمي في مساحة ضيقة للغاية من الإبداع، بل ربما ينعدم مع الوقت، وتصير الكتابة الشخصية مهمة شاقة عسيرة إذا طُلب منه في وقت من الأوقات أن يقدم ورقة علمية عاجلة، أو يعبر عن شخصيته العلمية بطريقة خاصة.
وهذا ما يرجحه إريك دين، ويسمِّي تلك الحالة بالتخندق الإدراكي Cognitive Entrenchment (Dane,2011)؛ وتعني أن الباحث أو الكاتب يجد نفسه مُحاطًا بسياج أسلوبي مُحكم لا يستطيع الفكاك منه، ويؤكد إريك أن تلك الحالة تعرقل النمو والتطور والابتكار في الكتابة الأكاديمية؛ لأنها مع مرور الوقت واعتياد الباحث العلمي على التركيبات الجاهزة الجامدة يتشبَّع بها ويصعب التحرر منها في كتابته الخاصة، ما يجعل النصوص تفقد ظلالها البشرية الإبداعية.
ويشير التخندق الإدراكي -كما وصفه- إلى حالة من التعطُّل الفكري، حيث يصبح الفرد أو المجال المعرفي مقيدًا بأنماط تفكير متأصلة تمنع الابتكار والتجديد، ويعكس الحالة التي تصبح فيها المعرفة محصنة ضد التغيير والتحدي، مما يؤدي إلى استدامة أنماط فكرية مسيطرة داخل الخطاب الأكاديمي. وقد استخدم ميشيل فوكو (1984؛ 1990؛ 2007) مفهوم «السياجات الدوغمائية» ضمن إطار الإبستيمي (épistémè) للإشارة إلى الحدود غير المرئية التي تفرضها النظم المعرفية المهيمنة على الفكر والتعبير، مما يؤدي إلى تأطير المعرفة ضمن أنساق مغلقة يصعب تجاوزها. وقد ناقش في «أركيولوجيا المعرفة»(L’Archéologie du savoir, 1969) كيف أن الخطابات المعرفية تخضع لأنظمة خفية من القواعد والحدود التي تحدِّد ما يمكن التفكير فيه أو قوله في حقبة زمنية معينة، وهو ما يمكن فهمه على أنه سياجات معرفية تحدِّد إمكانات التفكير وتمنع الاختراقات الراديكالية للنظام المعرفي القائم.
وفي كتابه «نظام الخطاب» (L’Ordre du discours, 1971) تناول كيف يتم ضبط الخطاب والتحكم فيه عبر إقصاء بعض الأفكار وتكريس أخرى، مما يشكِّل ما يمكن وصفه بـ «الأسوار الدوغمائية» التي تمنع بعض أنماط التفكير من الظهور داخل المجال المعرفي المسيطر.
أما في كتابه «الكلمات والأشياء» (Les Mots et les Choses, 1966)، فقد بلور مفهوم الإبستيمي باعتباره البنية الخفية التي تحكم إنتاج المعرفة داخل كل حقبة تاريخية، حيث يعمل النظام المعرفي السائد على تحديد معايير الحقيقة، مما يؤدي إلى تشكيل «حواجز فكرية» تمنع بعض الخطابات من التشكل خارج إطار المسموح به.
قواعد.. لا قيود
والمقصود من كل ذلك ليس الدعوة للتحلل من الإطار العلمي الحاكم أو التسلل خارج المعايير الأكاديمية المستقرة في الكتابة العلمية والبحث العلمي؛ فالتزام قوانين البحث والكتابة أمر ضروري ولا مناص منه بالنسبة إلى الطلاب والباحثين، لتظل هناك قواعد منهجية متعلقة بالأسلوب يمكن الانطلاق منها للحكم على المادة العلمية وتتبع مسارها وحجم نضجها. لكن التحذير من «التخندق الإدراكي» يأتي في سياق تحذير الباحث من أن يعلَق في نماذج وأنماط أسلوبية تقيد حريته الإبداعية وتغلق الباب أمام تدفقه العلمي السلس متأثرًا بالقوالب الجاهزة، سواء كانت قواعد أسلوبية أكاديمية أو مدخلات جديدة تتسلل إلى وعيه العلمي دون أن يستطيع الفكاك منه؛ لأن تلك الآفة تأخذه مع الوقت ليصير شبيهًا بآلة تُنتج نصوصًا تقليدية مكررة لها نفس البنية والتركيب، في حين أن المطلوب الأساسي في الكتابة الأكاديمية من ناحية -الشكل والمضمون- أن تفرز القريحة البشرية فضاءات جديدة وزوايا مبتكرة للأفكار بعيدًا عن التنميط والوسائل التقليدية المنتجة للمعارف.
وهذا الأمر يدعو إلى أن يصير نداء التخلص من التنميط هو واجب علمي يُوضع بجوار واجب الالتزام المنهجي بالهيكل العام والترتيب العلمي الداخلي، بحيث تبقى مساحات التخليق واسعة متاحة أمام الباحث، وكذلك تبقى مَلَكاته متحفزة لتخليق الجديد في الصياغة والأسلوب وطرح الأفكار بطريقة تضمن له التفرد النسبي في مجاله وإظهار بصمته الخاصة، لا أن يذوب في أنساق تقليدية مكررة.
وفي خاتمةِ تلك الإشارات النقدية النظرية المختصرة نؤكد أن الدعوة هنا ليست لتوسعة الاعتماد على الذكاء الاصطناعي أو تقليصها، ولكنها دعوة إلى إعادة النظر في طريقة دمجها وإدخالها المتدرج الواعي ضمن منظومة البحث والكتابة، والتنبيه المستمر على الباحثين والطلاب ألا يستسهلوا الاعتماد على القوالب الأسلوبية الجاهزة التي يوفرها لهم الذكاء الاصطناعي، وإعطاؤهم نماذج عن نتائج ذلك الخلل، بالمقارنة بين أبحاثهم العلمية التي اعتمدوا فيها على قريحتهم الأسلوبية، وصياغات الأبحاث التي وفرها لهم الذكاء الاصطناعي كي يلمسوا الفرق بأنفسهم ويدركوا كيف أن قوالب الذكاء الاصطناعي تجرهم جرًّا إلى تخندق علمي جامد لا يصنع منهم باحثين جيدين.
نموذج للتخندق الإدراكي
إن كان الهدف من الذكاء الاصطناعي هو «تمكين الآلات من تقليد الأفكار والسلوكيات البشرية بما في ذلك التعلم والتفكير والتنبؤ وما إلى ذلك» (حسين، 2024، ص239) فهذا يعني أن رافده الأساسي هو ما أنتجه ويُنتجه الإنسان، فيقوم الذكاء الاصطناعي بعملية مسح شامل لذلك النتوج، ثم يُدرجه في أرشيفه المعرفي، ثم يُعيد صياغته ويتتبعه ويضعه في أنساق خوارزمية يتم ضخها عند طلبها من الباحثين، والذي يحدث أن أنماط الصياغات التي يتيحها الذكاء الاصطناعي تتشابه بشكل كبير، مع بعضها بعضاً، وبالتالي فإن كثرة التلقي والاعتماد على أسلوب نوافذ الذكاء الاصطناعي يؤدي بالطالب إلى ما نحذر منه من آفة التخندق.
فعلى سبيل المثال سأطلب من الذكاء الاصطناعي عبر نافذتين مختلفتين (chat gpt 4) و(preplexity) كتابة فقرة من 10 أو 15 كلمة حول أثر فقد الأحباب في حياة الناس.
1- إجابة (gpt 4 chat): «الفقر يترك في القلب فراغًا لا يملؤه الزمن، ويعلم الروح الصبر، ويحول الذكريات إلى موساة وجرح لا يندمل».
2- إجابة preplexity: «الفقد يزرع في القلب حزنًا عميقًا، ويترك فراغًا لا يُملأ بمرور الزمن».
ومن اليسير هنا، وعبر هذا المثال البسيط أن يدرك القارئ مدى التشابه بين الفقرتين، بل لو جربت الطلب نفسه من حسابين مختلفين ولكن من خلال النافذة نفسها ربما ستجد أن الفقرات تحمل تشابهًا أكبر، وهذا هو ما يوصل الباحث إلى التخندق الإدراكي؛ حيث تتكاثر لديه تلك القوالب الأسلوبية المتشابهة التي يطالعها سواء كان بحثه في مادة أدبية أو علمية بحتة، فالنتيجة أن حصيلته اللغوية والأسلوبية للتعبير ستتقلص مع الوقت وتصير قوالب نمطية يتحرك في إسارها.
كيفية التخلص من التخندق الإدراكي
بما أن السبب الرئيس للقولبة التي تحدث للأسلوب البشري هي كثرة اعتماده على نوافذ الذكاء الاصطناعي، والبحث عن مساعد خارجي يقوم بدلًا منه ببعض الوظائف الكتابية والبحثية؛ فإن الحل يتمثل في عدة خطوات:
1- على الباحث ألا يعتمد على الذكاء الاصطناعي في الصياغة الأولية لمادته البحثية، بل يؤخر اللجوء إليه إلى مرحلة تالية من العمل، ويكون فقط للتصحيح أو الإضافة وتأكيد المعلومات.
2- على الباحث أن يحاول دومًا أن يغير من مقترح الذكاء الاصطناعي في مسائل الصياغة، بحيث يخرج من ذلك بثلاث فوائد مهمة، أولاها: أنه يحافظ على حساسيته اللغوية فتظل عاملة نشطة. والثانية أن يحافظ على مستوى لائق من الأمانة العلمية؛ لأن البحث في جملته سيُنسب إليه، ومن الأفضل أن يكون من إنتاجه الخاص، وهذه نقطة أخلاقية يجب الالتفات إليها باستمرار (عبدالكريم، 2024، ص335). والثالثة: ألا يتم رصد اقتباساته في الإطار غير المقبول عند فحصه من قِبَل أدوات كشف الاعتماد على الذكاء الاصطناعي.
3- أن يُكثر الباحث من روافده الثقافية التي تجعل له ملكة خاصة في التفكير والكتابة؛ فحتى في حال طلب الدعم من الذكاء الاصطناعي بشكل مشروع مقبول، لن يؤثر ذلك على ملكته الأساسية، وسيكون في حدود المتاح.
4- أن يُدرك الباحث أن وظيفة الذكاء الاصطناعي الأساسية هي الدعم العلمي بالبيانات والأرقام وتوفير المجهود الميداني الذي قد يستغرق وقتًا أطول من الباحث وكذلك يكون أكثر إلمامًا، لكن الحضور الذاتي لا يعوضه الذكاء الاصطناعي (حسين، 2024، ص244)، وأن الاستخدام الأمثل في مجال الذكاء الاصطناعي يكون «بالاستثمار والبحث الطويل الأجل في مجموعة من النُّهج النظرية والعملية للذكاء الاصطناعي، وتشمل تحليلات البيانات، وإدراك الذكاء الاصطناعي والقيود النظرية، والذكاء العام الاصطناعي، والذكاء القابل للتطوير، والروبوتات البشرية التي يحركها الذكاء الاصطناعي، والذكاء الاصطناعي الواعي للبشر والمُساعد للإنسان، والمساعدة في تحقيق الفوائد الاجتماعية والاقتصادية المحتملة للذكاء الاصطناعي في تقليل الآثار السلبية إلى أدنى حد ممكن» (مجموعة مؤلفين، 2021، ص16).
5- لا نظير للكتابة اليدوية؛ إذ يمكن اعتبارها ممارسة واقية من النمطية الآلية؛ فهي تتيح للباحث فرصة الانفصال عن القوالب الجاهزة التي قد تفرضها أدوات الذكاء الاصطناعي، وتعيد ربطه بالعمليات الذهنية التي تصنع فرادته الأسلوبية. حيث تؤكد دراسات علم الأعصاب والتعلم أن الكتابة بالقلم والورقة تنشط مناطق واسعة من الدماغ، وتدعم الذاكرة والفهم على نحو يفوق ما تحققه الكتابة عبر لوحة المفاتيح. هذا التنشيط المتكامل للمسارات الحركية والبصرية والمعرفية يحفّز الخيال ويمنح الكاتب زمنًا أبطأ للتفكير ومعالجة الأفكار، فيتكوّن أسلوبه الشخصي بصورة طبيعية متجددة (Meer الجزيرة Weel).
وبذلك تصبح العودة إلى القلم والورقة خطوة عملية للحفاظ على الحضور الذاتي في الكتابة، وصيانة المساحات الإبداعية من التآكل تحت ضغط الرتابة الأسلوبية.
مراجع المقال:
حسين، ياسمين. (2024). أثر تطبيقات الذكاء الاصطناعي على إنتاج البحث العلمي في الجامعات. مجلة المعهد العالي للدراسات النوعية، 4(11)، 239- 283. https://doi.org/10.21608/hiss.2024.292718.1349
عبد الصادق، عادل. (2023). الذكاء الاصطناعي بين الأمننة والعسكرة والحوكمة. المركز العربي لأبحاث الفضاء الإلكتروني – القاهرة.
عبد الكريم، عبد الرازق. (2024). المخاطر الأخلاقية لتطبيقات الذكاء الاصطناعي. مجلة كلية التربية، جامعة بنها، 35(1)، 329- 376. https://doi.org/10.21608/jfeb.2023.248537.1784
فوكو، ميشيل. (1984). أركيولوجيا المعرفة (ترجمة: عبدالسلام العالي). مجلة الكرمل، (13)، 81- 89.
فوكو، ميشيل. (1990). الكلمات والأشياء. مركز الإنماء القومي.
فوكو، ميشيل. (2007). نظام الخطاب (ترجمة: محمد سبيلا). دار التنوير.
مجموعة مؤلفين. (2021). الذكاء الاصطناعي والتعليم: إرشادات لواضعي السياسيات. اليونسكو.
Dane, Erik. (2011). Changing the tune of academic writing: muting cognitive entrenchment. Journal of Management Inquiry, 20(3), 332-336. https://doi.org/10.1177/1056492611408267
Van der Meer, A. L. H., الجزيرة Van der Weel, F. R. (2024). Handwriting, but not typewriting, leads to widespread brain connectivity: A high-density EEG study with implications for the classroom. Frontiers in Psychology, 14, 1-9. https://doi.org/10.3389/fpsyg.2024.1292593
** **
تهاني بنت سهل الروقي - باحثة دكتوراه في فلسفة النحو واللغة بجامعة الملك سعود.
tahanisahel@gmail.com