ذات يوم وفي لحظة من التأمل والهدوء، وقع اختياري على رواية (انقطاعات الموت) للأديب البرتغالي جوزيه ساراماغو، وجدت نفسي مشدودة أمام سؤال وجودي ماذا لو توقف الموت عن أداء دوره؟ فهذا السؤال رغم اختصاره وبساطته الظاهرية إلا أنه يحمل سلسلة من التحولات الاجتماعية، النفسية، والدينية، حيث يكشف هشاشة النظام الإنساني أمام اختلال أحد أعمدته، عالم يتوقف فيه الموت فجأة فتتغير ملامح الحياة غير النهائية، حالة من الفوضى الوجودية، بداية يبدو الأمر كأنه نعمة وفرحة بالخلود: لا أحد يموت، لا نفقد عزيزا، لكن سرعان ما يتحول هذا الخلو إلى كارثة. ازدحامٍ سكانيّ، مرضى يظلون في حالة احتضار دائمة، النظام الصحي ينهار، شركات التأمين تنهار، الدين يفقد سلطته الروحية، الدول تدخل في أزمة أخلاقية وقانونية، لم يعد هناك معنى للغفران أو للحياة الآخرة.
وبينما كنت أغوص في هذا العالم الغريب، تسرب إلى ذهني سؤال مختلف تماما، لا يقل غرابة عما قادنا إليه ساراماغو: ماذا لو أن اللغات القديمة لم تندثر وتفنى، بل تنتقل من جيل لآخر؟ ماذا لو بقيت السومرية، والفرعونية، واللاتينية، والآرامية وغيرها من اللغات الفانية حية تُستخدم إلى يومنا هذا، في الحياة اليومية، في المدارس، في الأسواق، على لوحات الإعلانات، كيف سيبدو عالمنا اليوم؟ هل سنحتفي بهذا التنوع اللغوي أم نتخبط في فوضاه؟
اللغة ليست مجرد وسيلة للتواصل، بل لتوصيل الأفكار والعواطف والرغبات، هي وعاء للفكر، ومرآة للثقافة، ومفتاح لفهم العالم. استمرار تلك اللغات كان سيعني استمرار أنماط تفكير مختلفة، ورؤى للعالم أكثر تنوعًا. ربما كانت مفاهيمنا عن الزمن، والسلطة، والروحانية، وحتى الحب، ستُصاغ بطريقة مختلفة تمامًا، ولو حدث ذلك، لربما تغيرت طريقة تفكيرنا تغيرا جذريًا.
وموت اللغة يعني انتهاء استخدامها بين المتحدثين الأصليين، ويتم ذلك بعد موت آخر شخص يتحدث بها، أو عندما يبقى شخص واحد لا يجد من يخاطبه بها، حتى وإن بقيت في بعض الطقوس الدينية كـ(اللغة السنسكريتية في الطقوس الهندوسية، واللغة اللاتينية في الكنيسة الكاثوليكية، واللغة الأكادية أو السومرية لإحياء التراث مثل تراتيل إنوما إليش)، أو المناسبات الرسمية مثل جامعة أكسفورد أو كامبريدج تستخدم اللغة اللاتينية في مراسم التخرج وغيرها، إلا أنها تظل لغة ميتة طالما لم تعد تستخدم بين الناس في التواصل اليومي.
ففي الوهلة الأولى يعتقد بعضهم أن بقاء آلاف اللغات دون فنائها بتنوعها اللغوي هو انتصار للهوية والتعددية، ويثري المشهد الإنساني ويمنح كل مجموعة لغتها الخاصة التي تكشف عن رؤيتها للعالم؛ بينما هو يُحدِث صعوبات وتحديات حضارية وثقافية هائلة ويؤدي إلى تكدس لغوي يربك التواصل العالمي، لأن وجود عشرات اللغات في بلد واحد سيصعب وضع مناهج موحدة، ويزيد من كلفة التعليم، ويخلق ثغرات معرفية وثقافية بين الشعوب؛ ويعيق التفاهم بين المجتمعات، ويوجِد حواجز في التبادل الاقتصادي والثقافي، فتتقسم الهوية الإنسانية إلى جزر لغوية متعددة، فقد يتمسك بعضهم بلغات محلية متعددة مما يخلق انقسامات داخلية، وصراعات حول اللغة الرسمية والتمثيل السياسي، سيعيق ولادة كلمات جديدة، واللغة تحتاج إلى التجدد لتواكب الفكر والتطور.
تأسيسا على ما سبق، تكشف لنا رواية انقطاعات الموت لجوزيه ساراماغو بتجربة خيالية، غياب الموت ـ عن هشاشة البنى التي نعتبرها مسلمات في حياتنا اليومية. فإذا أسقطنا ذلك الغياب على اللغة سنكتشف أن تعدد اللغات دون اندثارها سيؤدي إلى تراكم هائل في المفردات يهدد المعنى ويتحول إلى أصداء فارغة كجسد بلا روح، سيخلق رموزا غير مفهومة، تراكيب قديمة حية تفقد معناها أو سياقها، لغة جامدة لا تسمح بالتجريب، فجوة بين الأجيال؛ فكل جيل سيتحدث بلغة لا يفهما الآخر، ستتحول اللغة إلى متحف جميل، لكنه غير قابل للاستخدام اليومي.
فهل بقاء اللغات نعمة أم عبء؟
** **
د.نورة بنت عبد الله بن إبراهيم العمر - أستاذ الأدب والنقد المساعد بجامعة الملك سعود