الثقافية - علي بن سعد القحطاني:
يأتي هذا الحوار مع الأستاذ الدكتور منصور الجابري، استشاري أمراض الدم ونقل الدم، وباحث الأدب والتاريخ، ليقدّم للقارئ زاويةً غير مألوفة تجمع بين العلم والإنسانيات، بين نبض المختبر وذاكرة التاريخ. في مشروعه المعرفي المبتكر «التاريخ تحت مجهر طبيب» يعيد الجابري قراءة الماضي من منظورٍ طبيٍّ حديث، كاشفًا كيف يمكن لتطور الطب في تشخيص الأمراض وفهم النفس البشرية أن يفسّر كثيرًا من الظواهر التي غابت عن المؤرخين.
في هذا اللقاء، يتحدث الجابري لـ»الثقافية» عن تجربته في الربط بين الطب والتاريخ، وعن أثر الأوبئة في صياغة مسارات السياسة والفكر والعمران، كما يقدّم قراءاتٍ تحليليةً لافتة لشخصياتٍ وأحداثٍ عربية، منها تفسيره النفسي لشخصية الحجاج بن يوسف الثقفي، ورؤيته الطبية لمعاناة الشاعر حمد الحجي.
إنه حوارٌ يوسّع حدود المعرفة، ويذكّر بأن الطب ليس علمًا للعلاج فحسب، بل عدسة لفهم الإنسان وتاريخه وحضارته.
التاريخ تحت مجهر الطب
كيف ولدت فكرة الربط بين الطب والتاريخ؟، وما الذي دفعك لتضع «التاريخ تحت مجهر طبيب» وتؤمن بأن الطب الحديث قادر على تفسير كثيرٍ من الظواهر التاريخية؟
- أولاً: دعني أوضح لك مفهوم الربط بين الطب والتاريخ ثم أحكي لك قصتي مع هذا المفهوم الذي أعني به توظيف ما حققه الطب الحديث من تطور هائل في تشخيص الأمراض الجسدية والنفسية، وفهم العلاقة بين الإنسان وبيئته، وتصحيح المفاهيم المغلوطة عن الصحة العامة وتطوير علوم الجينات والسلالات البشرية، والاستفادة من جميع من كل ذلك باعتباره أداة تحليل تاريخي تُسهم في فهم كيف يتفاعل الأفراد والمجتمعات مع المرض، وكيف تصوغ الأوبئة توجهات السياسة والاقتصاد والعمران والفكر.
لقد بيّن لنا وباء كورونا - رغم اتساع معارفنا وقدراتنا - كيف يمكن لفيروس مجهري أن يغيّر مسار العالم. فكيف بنا في عصورٍ كانت المعرفة فيها محدودة وسبل العلاج والوقاية نادرة جدا.
وينبغي أن نضع في الاعتبارأن الإنسان واحد عبر الزمن، في مشاعره وتأثره وتأثيره حتى وإن تغيّرت أدوات التشخيص، لكن الأثر النفسي والجسدي للمرض بقي متشابهاً إلى حدٍّ مدهش.
أما قصة ولادة الفكرة في تجربتي الشخصية، فقد بدأت من مدرجات كلية الطب؛ يوم ربط أستاذنا القدير د. خالد الربيعان مرض هارون الرشيد بداء السكري. فقد كانت تلك لحظة إدراك حاسمة لدي أن الماضي ليس مكتوباً في نصوص جافة، بل لا يزال نابضٌا في أجساد الناس.
منذ ذلك اليوم، أخذت على عاتقي تطوير هذه الرؤية، فألفتُ كتباً، وقدمتُ محاضرات عدة، وجعلتها جزءاً أساسياً من تدريسي لطلبتي في كليات الطب والدراسات العليا، فأنا على يقين أن الطب ليس علماً للشفاء فحسب، بل منهج لفهم الإنسان في كل زمان ومكان.
المؤرخون المسلمون
ذكرت أن المؤرخين المسلمين ركّزوا على التفسير الديني للطواعين أكثر من وصفها العلمي.. كيف يمكن تصحيح هذا الخلل اليوم؟
- أولاً، لا ينبغي أن نحمّل المؤرخين المسلمين وزر الانفراد بهذا الاتجاه؛ فالمؤرخون في الشرق والغرب - قديمهم وحديثهم - كثيراً ما فسروا الظواهر المرضية بالأقدار الحتمية أو العقوبات الآلهية. غير أن ميزة المؤرخين المسلمين أنهم ضبطوا الرواية بأسانيدها وتفاصيلها، وهذا يمنح الباحث اليوم فرصة ذهبية لتتبع أعراض محددة بدقة عالية، ومن خلالها يمكن ترجيح نوع الوباء سواء كان عدوى بكتيرية مثل طاعون عمواس أو عدوى فيروسية كـالإنفلونزا الإسبانية، أو مرض وراثي مستوطن كالأنيميا المنجلية والهيموفيليا.
وهنا يأتي دور إعادة قراءة التاريخ بمنهج متعدد التخصصات: كعلم الاجتماع، والفلسفة، والاقتصاد، والطب.
ومن أروع الأمثلة على هذا المنهج ما أجراه الأوربيون في دراستهم لوباء الطاعون الأسود الذي غير وجه أوروبا للأبد وساهم في إدخالها إلى عصر النهضة فقد تمكنوا من تحديد البكتيريا المسببة للطاعون الأسود عبر تحليل الحمض النووي لرفات الضحايا! وهذه خطوة تبين لنا كيف يستطيع العلم أن يحيي التاريخ وأن يعمل على تحديث أدوات قراءته.
الحجاج بن يوسف الثقفي
قدّمتَ قراءةً نفسيةً جريئة لشخصية الحجاج بن يوسف الثقفي، وصنّفتها ضمن «الشخصية المعادية للمجتمع».. لكن هل يمكن لمثل هذا التحليل أن يتجاوز السياق التاريخي لعصرٍ مضطربٍ عاش فيه الحجاج وسط الفتن والتحوّلات الكبرى؟
- هذه قراءة نفسية تنطلق من عمق البنية السلوكية للإنسان في ضوء التقدم الهائل في الطب النفسي وأنماط الشخصية، لكنها لا تُسقط السياق التاريخي أو تُلغيه. الجديد في هذه الدراسة أنها تُوازن بين العوامل الداخلية للشخصية وبين المؤثرات الخارجية التي فرضها العصر.
فالحجاج لم يكن وحده في ميدان الفتن والتحولات الكبرى؛ لقد عاصر ولاةً وساسةً واجهوا اضطرابات سياسية أشد قسوة مما واجهه، ومع ذلك اتسمت استجاباتهم بقدر أكبر من الاتزان وضبط النفس.وفي المقابل، شهد التاريخ - قديمه وحديثه - شخصيات تماثل نمط الحجاج رغم أنّ ظروفها كانت أخفّ بكثير من سياقه. وفائدة هذا التحليل تتجاوز الماضي إلى الحاضر، فحين نكتشف أن هذا النمط السلوكي يتكرر بما يقــارب 4 % من المجتمع، ندرك كيف يمكن أن يظهر في مواقع الإدارة واتخاذ القرار، بأنماط متباينة تشترك في سمات هذه الشخصية القاسية. وحين يغيب عن هذه الشخصية الوعي الفكري والعلاج السلوكي الذي يهذب سماتها العدوانية وينظم اندفاعها، فإن أثرها على المنظومات قد يكون بالغ الضرر وممتدّ العواقب. لذلك فإن قراءة شخصية الحجاج على ضوء علوم النفس ليست لإدانة التاريخ، بل للوعي بالحاضر واستبصار المستقبل.
العبقرية والإبداع
مِن الأدباء مَن كانت نهايتهم مأساوية رغم شهرتهم الأدبية. هل هذه ضريبة العبقرية، أم خلل في تعامل المجتمع مع المبدعين؟
- المسألة متعددة الأبعاد، ولا يمكن ردّها إلى سببٍ واحد. فالنهاية المأساوية لكثير من الأدباء تتشكّل من تفاعل ثلاثة عناصر رئيسية:
أولاً: بنية الأديب النفسية، فهو يمتلك حسا مرهفا، وشعورا حادا تجاه النقد بوجه خاص وحين يفتقد الأديب إلى مهارة التوازن الذاتي وامتصاص الصدمات، قد ينسحب تدريجيًا نحو عزلة خانقة.
ثانيًا: طبيعة الإبداع نفسه؛ فالإبداع يبتعد أحيانًا عن إدراك الجمهور العام ويتسم بشيء من الغموض والتعقيد، وكلما ارتفعت القيمة الفنيّة للعمل ضاق عدد من يفهمه. وهذه المفارقة قاسية تجعل الأديب المبدع يعيش صراعا مريرا بين الشعبوية والنخبوية.
ثالثًا: المجتمع وموقفه من المبدع، فالمجتمع قد يصفّق للنص لكنه يَرهق صاحبه بتوقعات لا تنتهي. وحين تتحوّل الشهرة إلى امتحان دائم، يصبح المبدع محاصرًا بين الرغبة في البقاء صادقًا مع ذاته، والخوف من خذلان جمهوره. والشهرة تجلب تصفيقًا، لكنها تجلب أيضًا أحكامًا جاهزة، ومحاولات شتى لترويض المبدع لأهواء الجمهور.
المؤسسات الثقافية
كيف يمكن للمؤسسات الثقافية اليوم أن تساند المبدعين في مواجهة أزماتهم؟هل يكفي الاحتفاء بأعمالهم، أم نحتاج إلى احتضانٍ إنساني أعمق؟
- الاحتفاء بالأعمال الأدبية مهم وضروري، لكنه وحده لا يكفي إطلاقًا. فالأزمة الحقيقية التي يمرّ بها بعض المبدعين ليست أزمة نشر أو شهرة، بل أزمة إنسان يحتاج إلى من يراه خارج حدود النص الذي كتبه.
دور المؤسسات الثقافية يجب أن يتجاوز مفهوم الفعالية الاحتفالية إلى تنظيم حياة ثقافية آمنة نفسيًا، ومن ذلك:
1- توفير مظلات للدعم النفسي والاستشارة الاستباقية ليس لأن الأديب مريض بطبيعته، بل لأنه يعمل على حدود التجربة الوجدانية القصوى، مما يجعل التعرض للضغوط مضاعف الأثر عليه. وتوفير هذا الدعم يعتبر خطوة ناضجة في بنية أي مشروع حضاري.
2- بناء بيئة نقدية محترفة: تقدّم نقدا عادلا يحترم النص، ولا ينتهك صاحبه. فالمبدع يحتاج للنقد بوصفه دواء يعالج الخلل الفني ولا يودي بالنص وكاتبه.
3- تحسين الوضع الاجتماعي والمهني للأديب من ناحية منح فرص نشر عادلة، وعقود تحمي حقوقه المالية والفكرية.
4- خلق شبكات تواصل إنسانية بين المبدعين مثل المجالس، والأندية، فالعزلة غير المرشدة أخطر على المبدع من أي نقد قاسٍ.
5- برامج تدريب على مهارات الحياة كالمرونة النفسية، وإدارة الضغوط، وتجاوز الإخفاق، وهذه ليست مهارات ترفيه، بل أدوات بقاء للمبدع.
حمد الجحي
هل يمكن القول إن حمد الحجي دفع ثمن تشخيصٍ طبيٍّ خاطئ لحالته النفسية؟
- تبين لنا من خلال دراستنا الطبية المستفيضة، التي تضمنت بحثًا ميدانيًا في أماكن تنويمه ومقابلات مباشرة مع أسرته ومعالجيه، أن الشاعر حمد الحجي كان مصابًا باكتئاب شديد تطوّر لاحقًا إلى اكتئاب فُصامي - أو ما يُعرف طبيًا بـ Major Depression with Psychotic Features - وهو اضطراب ذو طبيعة مزدوجة يتطلب معالجة متوازية لكلٍّ من جانبيه: الاكتئابي والذهاني.
ونتيجةً لعدم اكتمال التشخيص آنذاك، لم يتلقَّ حمد العلاج المتكامل الذي كان يمكن أن يعيد له توازنه النفسي ووظائفه الاجتماعية، وربما يحرر أدبه من أَسْر المعاناة الطويلة التي كبّلته.
أما من ناحية سمات شخصيته، فقد كان الحجي بطبعه ميّالًا إلى الانعزال والخجل، وهي صفات تجعل المريض أقلّ تعبيرًا عن معاناته و أبطأ استجابة للعلاج.
ولا ينبغي أن نغفل أن الطب النفسي في تلك الحقبة لم يكن متطورًا بما يكفي للتعامل مع مثل هذه الحالات المعقدة التي تتطلب تكاملاً بين الدواء والعلاج السلوكي والدعم الاجتماعي والتقنيات المساندة.
وبذلك يمكن القول إن حمد الحجي دفع - من حيث لا يدري - ثمن تشخيصٍ ناقصٍ وزمنٍ لم تكتمل فيه أدوات العلاج.
قراءة طبية جديدة
وهل أردتَ من خلال دراستك أن تقدّم قراءةً طبيةً تصحيحية تعيد فهم معاناته بعيدًا عن الأحكام السطحية؟
- نعم، أردنا من خلال هذه الدراسة تتبع الأثر الصحي والنفسي على أدبه ورصد كيفية تفاعله مع المرض عبر مراحله الثلاث المعروفة لكل طبيب متمرّس، لكنها كثيرًا ما تمرّ خفية على الأسرة والمجتمع.
في المرحلة الأولى، كان الحجي يعيش صراعا داخليًا مريرًا، يتساءل عن سبب ألمه النفسي، محاولًا استدعاء مكامن القوة والمقاومة في ذاته، من خلال التعلق بالدين، واللجوء إلى الشعر كوسيلة من وسائل الشفاء الذاتي.
في هذه المرحلة لم يكن مستسلمًا للمرض، ولم يظهر عليه التسخط أو تمني الموت، بل كان يقاوم بصمتٍ وفي هذه المرحلة تحول شعر حمد الحجي إلى تأمل ذاتي، وأصبح القلق الوجودي والمشاعر التائهة وأسئلة الهوية هي ركائز القصيدة مما أضفى عمقا فلسفيا على أدب الحجي، وابتعد عن المباشرة وتحول إلى المسرح الداخلي وتخلى عن شعر المناسبات
أما المرحلة الثانية، فهي لحظة انهيار الدفاعات الذاتية، حين يبدأ المريض بإطلاق زفراته السوداوية عن الكون والمستقبل والحياة.
وهنا تتسلّل نبرة التسخط وتمني الموت، بل وربما التهديد غير المباشر بالانتحار. وغالبًا ما يُدرك المحيطون خطورة الحالة في هذه المرحلة، لكن بعد فوات أوان التدخل المبكر، وهكذا أصبح المرض نارا عجلت بنضوج موهبة الحجي لكنها أحرقتها بنفس السرعة قبل أن تكتمل وتستوي على سوقها.
ثم تأتي المرحلة الثالثة، وهي مرحلة الانهيار الكامل للجهاز النفسي والجسدي معًا، حين يفقد المريض القدرة على المقاومة تمامًا، كما حدث مع حمد الحجي حين نُقل إلى المستشفى في حالة انهيار تام، وقد غلبه المرض بعد رحلة طويلة من المكابدة الصامتة.
فهي -كما ترى- ليست دراسة مرضٍ بقدر ما هي تشريحٌ إنسانيّ لرحلة الألم، ومحاولة لإعادة الاعتبار للمبدع المريض، ورؤية ما وراء النص من نداءٍ إنساني لم يُلتقط في وقته.
الشاعر حمد الحجي
برأيك، لو كان الشاعر حمد الحجي يعيش بيننا اليوم، في ظلّ تطوّر الطبّ النفسي ووعي المجتمع بمعاناة المبدعين، هل كان يمكن له أن يتعافى ويواصل مسيرته الشعرية بنجوميةٍ أوسع؟
- لا أشك في ذلك، فثمة حالات مشابهة لحمد الحجي من الأدباء والرسامين والموسيقيين قد عولجت وتماثلت للشفاء، أو تمكنت على الأقل من التأقلم مع المرض واستعادة قدرٍ مقبولٍ من سابق إبداعها.
ولو أتيح للحجي ما نملكه اليوم من أدوات التشخيص والعلاج والدعم النفسي والاجتماعي، لاكتملت موهبته وتألقت تجربته الشعرية في أفقٍ أوسع. ولأصبح علَمًا من أعلام الأدب العربي الحديث، وربما من رموزه العالمية؛ بما يمتلكه من ثقافة رصينة وموهبة فطرية وشعر مطبوع.
حتى لا تتكرر المأساة
وما الرسالة التي تودّ توجيهها للمبدعين والكتّاب الشباب حتى لا تتكرّر مأساةٌ إنسانية مشابهة لما واجهه الحجي؟
- رسالتي للمبدعين والكتّاب الشباب أن يتعلموا فن المحافظة على توازنهم النفسي والروحي قبل كل شيء؛ فالإبداع لا يزدهر في نفسٍ حائرة مضطربة، وعلى المبدع أن يصون روحه بالتأمل والإيمان، ويغذي عقله بالمعرفة، ويحمي جسده بالعناية والراحة، ويبني حوله شبكة علاقات إنسانية داعمة. فحين يختلّ هذا التوازن بين الروح والعقل والجسد ومنظومة العلاقات، يبدأ الانهيار الصامت الذي لا يشعر به أحد إلا بعد فوات الأوان.
** **
@ali_s_alq