في تلك المدينة الجميلة النائية وُلدت تعلمت وفي يدي للفسحة قطعة خبز صاج محشوة ببقايا تمر مكنوز (تقول أمي رحمها الله التمر يقوي الذاكرة وهي بالواقع تعني أنه يسد الجوع) حفيت أقدامي في أزقة الحارة المغبرة والضيقة حتى ساحاتها (البراحة) جَعلتها ورفاقي ميدان لهوٍ ممتع وصراع مستمر للسيطرة والقوة أزعجت طيور المزارع المستوطِنة والمهاجرة متعة وتسلية ولهو.
عبثتُ في رطب النخيل القصيرة حتى سيارة (المطافي) لاحقتها في (القوايل) عشت في أمان من الحب الممنوع والمسموح والعشق المحرم دينياً ومجتمعياً.. رغم شقاوتي ومقاومتي..
احتضنتني بعدها المدن الكبيرة.. علمتني جامعتها عبرت سور القرية، وانبهرت بخط الـ18، وخط الهاتف، وأزقة سويقة، وشارع الثميري، وأغراني صاحب التسجيلات للعمل معه ظناً منه أنني عنصر تسويقي مناسب.
عايشت بوحدتي ربما جذور الحرمان أو هو تمرد عاطفي.. حين أتى في طريقي بعضك وأتيتك كلي ربما كُنتِ ضالتي أو ربما لاحقاً موجعتي.. أحببت الحديث والسهر.. أحببت أزقة منفوحة، حيث سكناي لعلي أتلبس شيء من الأعشى أغريك بجدارتي الثقافية.. كُنت أخالك وأراقب كل حافلة تحمل الزهرات اليانعات إلى الكليات علني أجد فيه ريح شالك، أصبح قلبي يلوّح لكل باص يمر أمامي.. بلا عنوان أعيشك وبلا بداية ولا نهاية.. كل ما يمكن أن أهتدى إليه محطة وصول (الباص) إلى شارع الستين حيث يضمك صرح علمي هناك ورفقة صاحبتك (خريسي) هذا الغموض يتسلح بعنفوان وطوق حديد لا ينثني رغم اجتهاداتي وعبثي بأن أكسب جولة.. وراء جولة بكل ما أملك من مقومات الذكاء والحنكة (والتغابي) والشيطنة.
ومرت الأيام.. تبخر ضباب الأمل في وهج الشمس الحارقة هجرت طرقات الخيال إلى مكان بعيييد.. محاولات يائسة لتتقد الذاكرة بالذكرى.. تتبعت أملى (على خطى العرب) ربما لإرضاء تحد في داخلي يوازي الانكسار الذي صنعته النهاية..
تولدت الأيام ومن خلف الزحام وعلى ضفاف جريدة الجزيرة تعود بي الذكرى إلى الأمس وسمر الليل وأوتوبيس النهار وشارع الستين والأعشى... وعلى شواطئ وصفحات سِيف الجزيرة ومن على جنبات شواطئها أجدك كلما كانت الشمس تشرق أو تهوي إلى مغيب يعيش بداخلي رجل أناني مؤمن أن هواه يستحق العناء والصبر ويرفض الانكسار..
الأجمل أنني أراك في الكتاب والقصة والمعرض والمهرجان والأغنية والشروق والغروب.. كلما وقعت عيناي على رواية تحيي في داخلي ماض مستحيل.. فقط أتلذذ بألمه روحانياً غرسته أيام شبابي فرص لن تتكرر.. ربما ستكون غداً رواية أسرق الوقت والزمان والمكان أكتبها تعيش أجيالاً واكتفي بالنسيان.. أحلامي حبلى بروايات حجزت عناوينها لم أدونها بعد مثل (قلب الشجرة)، (حدة الطرقات)، (فتى منفوحة)، (ذاكرة متجددة).
** **
- نجم الماضي