أول ما استوقفني عند قراءتي الأولية لهذه الرواية؛ أنها انشغلت بقضايا المرأة وهمومها وتجاربها الوجدانية وتحدياتها؛ وكل ذلك سُجّل بقلم كاتب (رجل)!
هذا التناقض الظاهري، أثار دهشتي وجعلني أتساءل: كيف يمكن لصوت ذكوري أن يعبر بنجاح عن التجربة الأنثوية؟! وهل سيضيف هذا الاختلاف قيمة جديدة للنص؟
وقد يفترض القارئ أن الكاتب سيفرض رؤيته فتهيمن على النص كله؛ لكن استخدامه لضمير المتكلم بلسان البطلة، ثم بلسان ابنتها الشبيهة بها يفسح المجال لصوت أنثوي متكامل، يتحدث من الداخل لا من الخارج.
وهذا التوزيع (في نظري) يحرر النص من مركزية المؤلف (الذكورية)؛ لأنه لم يفرض تفسيرا واحدا للأحداث بل ترك للشخصيات النسوية أن تنطق بخبرتها الذاتية.
وبالانتقال إلى أسلوب السرد بدا لي أن الرواية تجاوزت الرواية التقليدية ذات الصوت الأحادي، وتناوبت البطلة (جواهر) وابنتها (ميلا) الحكي، تروي كل منهما الحكاية بضمير المتكلم مع مشاركة شخصيات أخرى ثانوية، تعد ظلالا لهما.
اعتمدت الرواية على تعدد الرواة غير المعلن رسميا؛ إذ تسرد الأم صفحات من حياتها تليها ابنتها دون فصل واضح يعلن عن الراوي، وهذا الأسلوب يسمح بتعدد الأصوات، ويعكس تباين وجهات النظر، وتشابه التجارب بين الأجيال، كما يضيف بعدا دراميا للنهاية المتباينة التي تتراوح بين الفرح والمأساة، وكل ذلك صير الرواية تجربة سردية غنية تجمع بين البنية الفنية، والحس الإنساني العميق.
افتتحت الرواية سردها (بجواهر) الشخصية التي تهيمن على خطوط السرد الأولى وتضع القارئ في صميم تجربتها، تروي أحداث الرواية من منظورها، وهو الأكثر سيطرة وحضورا، وكأنه العمود الفقري للرواية، وقد منحه الكاتب مساحة واسعة لتعبر البطلة من خلاله عن كل ما واجهته من ظروف الحياة الأسرية، والعملية والعاطفية.
وحين يتحول السرد إلى ابنتها ميلا (ابنة ليليت)، تظهر كراو أقل هيمنة من الأم لكنها ذات تأثير قوي في رواية الأحداث.
يكشف النص أيضا عن امتداد حضور نسائي عبر ثلاثة أجيال: الجيل الأول -جيل والدة البطلة (الهندية) وتمثل الجذور، أو جيل الصبر والصمود على مصاعب الحياة، ثم الجيل الثاني جيل الطبيبة (جواهر) وهو جيل يتأرجح بين الأصالة والتجديد، ثم الجيل الجديد وتمثله الحفيدة (ميلا).
ومن الملاحظ وجود نقاط التقاء كثيرة بين هذه الشخصيات تتجلى في الصفات والظروف المشتركة، إذ يتحول ضعفهن إلى قوة عند مجابهة الصعاب.
تحكي جواهر موقفا عن والدتها بعد وفاة الأب، عند تقسيم الميراث، فتقول:( ردت بحزم غير معتاد منها، ((بابا دعيج يريد أن نخرج من هذا البيت ليأخذ نصيبنا من الميراث، لكن أنا لن أخرج من هذا البيت خطوة واحدة حتى يسلمنا نصيبنا كاملا، اذهبي يا جواهر إلى عملك، وسأبقى شوكة في خاصرته حتى نحصل على حقنا)) تقول: هنا أدركت أن هذه الهندية ليست تلك الإنسانة البسيطة الساذجة).
انتقلت هذه القوة إلى البطلة خصوصا بعد أن صقلتها الغربة والتجارب، تقول عنها إحدى صديقاتها: (جي جي، لم تعودي تلك الطبيبة الهادئة والوديعة، والصامتة، لقد غدوت امرأة قوية متمردة، وأنضجتك المعرفة والقراءة، والعمل الجاد).
توارثت الحفيدة (ميلا) هذه الصفة أيضا، تقول عنها عمتها حين رفضت عرضها مرافقتها إلى مكتب المحامي (ها أنتِ تثبتين أنكِ بنت أمك).
حققت ميلا وأمها جواهر نجاحا علميا، يقابله إحساس بالحرمان من الاستقرار الأسري ،كما يظهر البعد الرمزي في تشابه اسم الحفيدة (ميلا) مع اسم جدتها ( باميلا)، لم يكن هذا التشابه صدفة بل هو خيط سردي مقصود يعزز فكرة توارث المعاناة، والبحث عن الهوية، ولعل هذا التشابه يعيد إنتاج التجربة الإنسانية في أكثر من شخصية.
وكأن خيوط التشابه هذه تُقرأ على أن تعدد الرواة لم يكن إلا تعددا لأدوار الأنا الواحدة، وحكاية عن رحلة المرأة الممتدة عبر الأجيال.
وأما المكان، فلم يقتصر على كونه مجرد خلفية للأحداث، بل تجاوز ذلك ليعكس هوية مؤقتة، وحياة يومية متجددة للشخصيات، وهو ما تجلى في عناوين فصول الرواية (الرياض، نيويورك، لوس أنجلوس ) ،كما عاشت البطلة أياما وذكريات سعيدة في موريتانيا ،وسعادة ناقصة في الدمام!
لم تكن تلك المدن إطارا جغرافيا فحسب،فكل مدينة تمثل تجربة للشخصية مما يمنح النص واقعية، ويقوي صلة القارئ بالأحداث المروية، كما أن لكل مكان وقع مباشر على قرارات وتصرفات الشخصيات، فهو إذن جزء من تكوين الأحداث والشخصيات.
وإذا كان المكان قد شكل إطارا متغيرا لحياة الشخصيات، فإن النهايات تكشف عن ثبات الاختلاف في نهاية الرواية بين البطلة وابنتها.
وبهذا تكتمل عبقرية الروائي بنهايتين متناقضتين، فقد كانت النهاية بصوت (جواهر) سعيدة ومتصالحة، إذ اجتمعت فيها ثلاثة أجيال: الجدة والأم والحفيدة، كما تجلت المصالحة العائلية بعودة الروابط بين جواهر وإخوتها وعوائلهم.
في المقابل يصدم القارئ بنهاية مختلفة تماما حين يصل إلى نهاية الرواية بصوت ( ميلا) ابنة جواهر، وذلك حين تتلقى اتصالا هاتفيا من خالها (عبد الرزاق) يخبرها فيه عن وفاة والدتها منتحرة، والعجيب أن هذا الحدث يوافق تواريخ مهمة أخرى!.
وهذا الاختلاف في النهاية يفتح المجال للتأويل، إذ يمكن قراءته على أكثر من وجه، فقد تُفَسر النهاية السعيدة،بسعادة جواهر أو د. جي جي (كما سمت نفسها لاحقا) ،بإحساسها باكتمال تجربتها ،وأنها أدت دورها كاملا في الحياة: عاشت نجاحاتها وإنجازاتها، وقدمت الدعم المالي الكافي لابنتها وللآخرين، وربما يكون هذا ما تمنته فعلا، أو تخيلته. قبل انتحارها متأثرة بالمرض النفسي الذي ألم بها.
أما النهاية المأساوية فكانت بصوت (ميلا) ،عبارة عن خسارة نفسية وحرمان من الأم رغم كل المحاولات.
ومن الملاحظ أن المؤلف لم يتعمق في تصوير مشاعر الابنة بعد سماعها خبر موت أمها ( منتحرة) رغم بشاعة النهاية! ، وإنما اكتفى بتعليق مقتضب على لسان ميلا: ( -رحمها الله-، لقد عاشت حياة عظيمة، كم تمنيت لو التقيتها وهي على قيد الحياة، أشكرك يا خالي على الاتصال، مع السلامة)!.
وهذا -في رأيي-يشي ببرود سردي متعمد، وقد يعكس نزعة الكاتب في إيثار الموضوعية على الانفعال العاطفي.
ومما يثير انتباه أي قارئ فاحص، اختيار تاريخ 17من أغسطس تاريخا لتخرج (جواهر)، وتاريخا لوفاتها ،ولميلاد ابنتها (ميلا)، ولأحداث أخرى تعد مفصلية في حياة البطلة .
هذا الربط الزمني يعكس رمزا واضحا لاستمرارية الحياة، فالموت والحياة متجاوران ،فحيث تنتهي حياة الأم تبدأ حياة البنت!، ويحيلنا هذا الربط إلى أسطورة ( طائر الفينيق) ، الذي يولد من رماده.
ماتت جواهر التي كانت ترفض الخضوع للسلطة الذكورية وتتمسك باستقلالها، مهما كان الثمن باهظا، لكنها أنجبت (ميلا)، (ابنة أمها).
أضاف هذا التنويع عمقا للرواية وتنوعا في الرؤية؛ فهو يمكن القارئ من التعايش مع كل تجربة بوعي أكبر ويفتح نافذة لفهم بعض التعقيدات الحياتية،
ويبدو لي أن الكاتب أراد من خلال استخدامه لهذه التقنية، إظهار اختلاف زوايا النظر، وترك مسافة للقارئ للتأمل في بعض القضايا العامة؛ فالشخص الذي لديه تطلعات سامية في الحياة سيشعر دائما بأنه لم ينل السعادة الكاملة التي كان ينشدها( كما حصل مع بطلته وابنتها) ، وأن الحياة متعددة الأوجه بين الأمل والألم والفقد والعطاء، بين الانتصار والخسارة، بين الرضا والرفض.
أفاد الكاتب من هذه الميزة فلم يعد عمله مجرد رواية بل تحول إلى وثيقة إنسانية تستحق التأمل والتحليل، والدراسة، وتدعو القارئ إلى التفكر في تداخل التجارب الفردية والعائلية، وتأثيرها في تشكيل الشخصيات.
قدمت رواية (ابنة ليليت) نموذجا سرديا لافتا في معالجة القضايا الأنثوية من منظور ذكوري؛ حيث أبدع (أحمد السماري) في اقتحامه عالم المرأة بألمه وتحولاته النفسية والاجتماعية ليعيد صياغته بلغة تمزج بين التعاطف، والتحليل.
** **
- د.ابتسام البلوي