قبل أيام وصفني أحد المتابعين بلطف قائلاً: «أيها المفكر المبدع».. والحق أن العبارة -على رقتها- جعلتني أشعر بشيء من الارتباك، ذلك النوع من المجاملة الذي يُحرج أكثر مما يُبهج.
كنتُ أقرأها وأتخيل نفسي فجأة أصلح نظارتي السميكة وأتأمل السقف في صمت عميق بينما أستعد لطرح نظرية جديدة تغيِّر وجه الفلسفة الحديثة.
لكن لا، الأمر أبسط من ذلك بكثير، بل أكثر تواضعًا، وربما أكثر صدقًا.
لست مفكرًا يا سادة.
ولا حتى «شبه مفكر».
أنا مجرد كاتب بسيط، أحاول أن أكتب كما يتنفس الناس، أن أجعل من الفكرة العادية نصًا يمكن أن يُقرأ دون أن يتثاءب أحد.
أجتهد أن أصهر المعاني في كلمات أنيقة، أن أجد طريقة تصالح بين المنطق والعاطفة، بين السطور والعين التي تتبعها.
أكتب عن شيء سمعته، أو فكرة قرأتها، أو مشهد التقطه بصري وأنا أتسكع في الطريق.
هذا هو الكاتب.
أما المفكر فحكاية أخرى تمامًا.
المفكر ليس من يتقن البلاغة أو يجيد الإقناع، بل من يُعيد تعريف السؤال نفسه.
هو الذي لا يرضى بالأجوبة الجاهزة ولا يطمئن إلى ما ورثه من أفكار، بل يقف أمام العالم كما يقف الطفل أمام لغزٍ لا يفهمه، يحاول أن يفككه ببراءة وإصرار.
هو الذي يربط بين ما هو ظاهر وما هو خفي، بين ما نراه وما نغضّ الطرف عنه، ثم يقدّم لنا رؤية جديدة تجعلنا نرى الأشياء كما لو أننا نراها لأول مرة.
المفكر لا يكتب فقط، بل يخترع زاوية للرؤية.
تذكرت في هذا السياق أستاذي في المرحلة الثانوية، الأستاذ: فهد الملحم، الرجل الذي قرَّر أن يهدم أسوار الكتابة التقليدية في يومٍ واحد.
رسم نقطة على السبورة وقال بثقة غريبة:
اكتبوا عنها.
كانت أفواهنا مفتوحة وأقلامنا مشلولة.
نقطة!
نقطة واحدة جعلتنا ندرك أن الكتابة الحقيقية تبدأ من العجز عن الكتابة، وأن التفكير لا يحتاج إلى موضوع بقدر ما يحتاج إلى فضول.
ذلك الدرس كان أول لحظة نقترب فيها من معنى الفكر دون أن نعلم.
نحن -مع الأسف- نعيش زمنًا أصبحت فيه الألقاب أرخص من الفهم.
كل من كتب نصًا يظن أنه مفكر.
كل من حمل كتابًا، أو علّق على مقطع فلسفي في تويتر، أصبح « فيلسوف العصر».
إن كلمة « مفكر» كلمة ثقيلة، تحتاج إلى عمرٍ من القراءة، وجلدٍ على الشك، وشجاعة في مواجهة السائد.
المفكر لا يرتاح، لا يكتفي، لا يصدّق بسهولة.
بينما نحن نحب الاطمئنان.. نحب أن نعرف أكثر مما نحب أن نفهم.
حين أُسأل: هل لدينا مفكرون حقيقيون في عالمنا العربي؟
ابتسم، لأن الاسم الذي يطفو على ذهني فورًا هو الدكتور عبدالله الغذامي.
رجل لم يكتفِ بأن قرأ العالم، بل قرأ طريقة قراءتنا للعالم.
أعاد ترتيب المفاهيم، وخلخل اليقين الثقافي الذي كنا نتمسك به ببراءةٍ وكسل.
لم يقل لنا كيف نفكر، بل جعلنا نكتشف بأنفسنا أننا لا نفكر بما يكفي.
إنه لا يقدّم الأجوبة، بل يورطك في الأسئلة.
ولأن الناس تفضّل من يريحها على من يوقظها، فقد عاش حياته الفكرية بين الإعجاب والخصومة.. وهي ضريبة لا يدفعها إلا المفكرون!
في النهاية، لا عيب في أن تكون كاتبًا.
ولا غضاضة في أن تكون مثقفًا عاديًا.
لكن لا تضع على كتفيك عباءة المفكر وأنت لم تحتمل بعد ثقل الفكرة.
المفكر ليس لقبًا يُمنح، بل رحلة تبدأ بسؤال واحد.. سؤال قد يغيّر طريقة رؤيتك للعالم إلى الأبد.
** **
- علاء الدين عجعوج