صدرت رواية «تباين: بين نظرة الألف ياردة والانفصال» للكاتبة ريم العنزي عام 1446هـ/ 2024م، وتدور أحداث الرواية حول موضوع رئيس وهو حياة شغف التي مرّت بتجارب إنسانية أليمة تتراوح بين الحب والوفاء، والبعد والقرب، والتضحية والظلام والأمل، قدّمت التضحيات وتحملت الآلام والأوجاع من أجل أملٍ بغدٍ جميل كطلوع الضياء.. ولكن كان دون ذلك الصباح المأمول العديد من النوائب والعقبات والآلام.. والمفاجآت والانتظار.
شخصيات الرواية تتصدرها بطلة الرواية شغف، تلك المثقفة المهتمة بعلم النفس والشغوفة بالقراءة والأدب والثقافة، تعيش في عالم مفعم بالآمال الجميلة، وحياة الحبور، حتى يُطل عليها ذلك القدر التي تعيش معه أقسى أيام عمرها، وأكثرها نسجًا للآمال والخيال والرجاء والخلاص، ولكن.. للزمن أقدارٌ أخرى..
من الشخصيات الرئيسة في الرواية «آسر» ذلك الضابط العسكري ابن الأسرة الثرية التي تقوده الأقدار والصدف إلى تلك المكتبة التي صادف بها بطلة القصة وحصل لقاء الأعين من خلف الرفوف.
ومن الشخصيات الثانوية التي كان لها إسهام في أحداث الرواية: مؤيد وإلهام وأديب المسكين وغيرهم.
حبكة الرواية تدور حول هبوب عواصف المتاعب والآلام على الشخصية الرئيسية شغف، ووقوعها ضحية تنظيم محظور يضمر الشر للوطن، فتصبح رمزًا للتضحية والإيثار في سردية محزنة من الوجع والكآبة والصدمات النفسية المختلفة.
بناء الحبكة هو بناء تقليدي نوعًا ما، والحكاية لها بداية ووسط ونهاية أليمة، وتركّز على تدفّق الأفكار والأبعاد النفسية والإنسانية والأنطولوجية المليئة بالأحاسيس والمشاعر، وهي تجربة أليمة تدعو المتلقي للتأمل والتوقف كثيرًا عند هذه العواصف النفسية الهوجاء التي تنبع من أحداث هذه الرواية، كما تدعو للتفكر في هذا الانقلاب في الحياة من حال إلى حال آخر، ومن قمةٍ إلى قاع، ومن سعادةٍ إلى تعاسة.
بداية الانقلاب في الأحداث وبداية تعقُّد الأحداث تتأتّى في دخول الأطراف الخارجية والوشاة بين الحبيبين وطمع الطامعين ورغبات غير الأسوياء والذات الأنانية التي لا تأخذ في حياة الناس إلّا ولا ذمة، فتعقدت الأمور وتباعد الطرفان عن بعضهما ووقعت بطلة القصة في يدي تنظيم محظور خارج عن القانون، تعدّ الأيام والليالي منتظرة بزوغ فجر الخلاص.. والأمل.
استخدمت الكاتبة أسلوبًا رقيقًا سهلًا شاعريًا في بناء هذه الرواية، وحفلت الرواية باللغة السهلة الواضحة، والتراكيب اللغوية التي حوت المجازات والصور البلاغية والتشبيهات البليغة والاستعارات المكثفة في وصف وتصوير الأحداث في الرواية، وفي وصف وتصوير حالات الانكسار والحزن والألم والفراق وشتات الأمر، وجاء الوصف والتصوير الفني بليغًا من خلال هذه الصور البيانية البلاغية المختلفة.
وللرمزية حضور في ثنايا هذه الرواية فنجد توظيفها في وصف الزمن ومروره والليل الحزين الممل الطويل ووصف بعض الأحداث في سردية الرواية، كما نجد الرمزية في وصف بعض أحاسيس النفس البشرية، ووصف كثير من الحالات العاطفية للإنسان.
ومن ذلك الوصف الذي وظّف التشبيهات والاستعارات البليغة العميقة: «الحزن يئن في صدري أنينًا.. لهذا الواقع المزري، يبكي بكاءً ينتحب نحيبًا.. أسفًا على حالي، حتى الحزن لي رقّ، أنبشُ عن فرحٍ قريب، أرتجي معك غدًا بعيدًا وصعيب، أبحث في الممرات هنا عن مسرّة ضيّعت طريقها نحوي يمنةً أو يسرةً، هل من ضحكة؟ حرمتَ قلبي الخفق، جعلتَ الدُّنا في عيني ضبابا، سلبتني من عالمي، ظلامٌ يخترق قلبي الذي كان غارقًا في النور، بنورٍ مصدره هو، سرقت مني البسمة.. أنا من كانت تشهد لها الحياة، فتغنّي لها الأيام..».
يظهر الوصف كثيرًا في هذه الرواية بأسلوب شاعري وتراكيب بلاغية عميقة تُعمّق الإحساس بهذه الأحداث التراجيدية في الرواية، فجاء وصفًا رقيقًا بليغًا مثيرًا للعواطف والشجون، من ذلك الوصف الشاعري الرقيق البليغ: «حبّك سامّ حيدني عن كل جميل وجليل، دروبي ضياع وفي الطرق سباع، وأنا أرتجف خائفة، أين أذهب وصدره أبعد عني من ثقبٍ داخل صدري يُدعى قلب تتسرب منه آلام، الدمع يتلألأ في عيني ينصهر ساخنًا كالحمم، كالمطر ينتثر حين يهطل من غيمة، حبّات المطر دمعات، حتى السماء شاركتني شعوري، أليس بعدَ البُعدِ من التقاء؟».
وتتبلور تراجيديا المأساة أيضًا في المقطع التالي: «إلى السرور اشتقت وإلى البعدِ ما تُقت، وعن دربي ما حُدت مهما كانت المغريات، أتقبّل صروف الأقدار بجَلَدٍ، أبكي صامتةً في الليل البهيم، آهاتي مكتومة، صرختي ساكتةٌ والدموع هطلٌ هطل، من يعي وجعًا بجوفي يُحادي السماوات؟ من يتّفهم معنى كلمة ألم أو يفهم؟».
وتتجلّى روعة وصف المشاعر في المقطع التالي: «هل من فهمٍ هل من إشفاق وقد بلغت همومي حد الآفاق؟ أرقبُ السماء وبداخلي بركانٌ يحرقني، كياني نازفٌ حرارةٌ في قلبي، وجسدي يحتضر موتةً أخرى.. هل من مطرٍ باردٍ يُغيثُ قلبي؟ هل لي من آهةٍ تُبرِّرُ موقفي؟ ما آبه بحالي عدا حزنٌ رفيق الليالي المظلمة... جفّ قلبي من الحزن، والخوف في داخلي يضطرم، يضطرب من أيامٍ خوال تجرحني لا تُبالي، قدري ينازعني فرحةً وأتخاصمُ مع الغد على ضحكة، أشتري من الأيام.. أُساوم، والخيبة أُقامر، لتظفر من بعد عليَّ جولة أخرى، مللتُ ملامك كلامك سلامك، أبتسمُ في وجه البؤس.. أُجاملُ الحزن وأنت أعتى عليَّ منهما مجتمعين، فأخبرني صدقًا أعدوٌ أنتَ أم حبيب؟».
وفي الرواية أبعاد أنطولوجية وجودية تتداخل مع أبعاد نفسية وإنسانية عميقة، ومن تجليات البعد الأنطولوجي الوجودي فيها قول «آسر»: «حلمتُ يومًا بالحياة الطبيعية برفقتكِ، حلمتُ أن أملك ضحكةً لكِ ثم أتمنى أمنيةً عنكِ، حلمتُ أن السعادة على الأرض ستتحقّق كما الأحلام بلقائِكِ، الفرحة تغزو وعلى القلوب تُغير، تخيلتُ كوني أنا بكلِّي أنا، أني لن أفقد نفسي، لم أضع عني ركضًا وراءكِ ما حييت... إنها الحياة كحقٍ لي ولكِ كانت أو تكون، إننا نملك أن نتنفس، أن نمتلك أجسادنا في تحركاتنا كما أنا وأنتِ وكما نشاء فوق الغيوم نشوةً نطير.. ليتني أعرف من أنا بدونكِ.. لقد تولّى عني كل ما تولَّى، ليتني غربتُ عني أيضًا أو توليتُ، كما توليتِ، تضيق بي الدروب وأفق السماء الرحيب، حدود هذا الفضاء تختنق بي، قطرات المطر في الغيمة تتوسَّلُ لنجاةِ صبري أولئك في تلك الغيمات..».
والبنية الفنية للرواية متماسكة إلى حد كبير، فهناك تماسك وتسلسل لأجزائها وأقسامها، فجاءت الرواية متسلسلة تسلسلًا منطقيًا، وهذا مما يُحسب لهذا العمل.
ظهر الزمان والليل وقسوتهما في سردية هذه الرواية، ظهرا يحملان الأحداث المؤلمة ومرور الزمن الممل الحزين في جوٍّ مليءٍ بالكآبة والأسى. وظّفت الكاتبة الزمن والليل توظيفًا مناسبًا في سردية الرواية الممتدة من فترة الشباب وإلى بعد سنوات من الأحداث، ولعب الزمن وعقارب ساعته دورًا في مراحل وأحداث هذه الرواية. وظهرت الأماكن في سردية الرواية بشكل واضح، الرياض، حائل، تبوك، القصيم، الطائف، وغيرها. وظهر الحوار في الرواية بشكل جيد، وحدث توازن نوعًا ما بين الحوار والسرد، وهذا يُحسب للقيمة الفنية للعمل.
كان البعد النفسي أكثر الأبعاد حضورًا وتأثيرًا في هذه الرواية، فقد وصفت الكاتبة الكثير من المشاعر النفسية والأحاسيس العاطفية، وسعت بإجادة إلى توصيفها بدقة وعمق مما جعل المتلقي يعيش في معمعة هذه الأحداث والانكسارات، ويتحسَّسُها عن قرب، فوصفت مشاعر الحزن والكآبة والفرح والألم والأسى والخذلان والمعاناة والأمل بعمق وبلغة شاعرية سهلة، وظهرت الأبعاد النفسية كثيرًا في ثنايا القصة، وسلّطت الكاتبة الضوء عليها وأجادت في وصفها وتقريبها للمتلقي بأسلوبها.
ومن خلال تتبعنا لسردية هذه الرواية فإن لها بعض المآخذ التي تقلل من القيمة الفنية لها، منها على سبيل المثال إقحام اسم ديوان الصمت الصدى في الحكاية وكثرة إيراده بها، وكذلك ورود بعض الأحداث التي ربما لا تتسق - نوعًا ما - مع مكان وزمان الرواية خاصة أن الكاتبة حددتهما بشكل واضح وجليّ. أيضًا ظهور بعض الأخطاء الإملائية واللغوية هنا، وهناك، وفي رأيي الشخصي أيضًا كثرة العناوين الفرعية في الرواية ليس أمرًا مبررًا بل يوحي بكثرة الفصل والوقفات في أجزاء الرواية على الرغم من أن الرواية لا غبار عليها من ناحية الوحدة العضوية، وجاءت متماسكة الأجزاء، وكذلك كان تسلسلها منطقيًا إلى حد كبير وهذا مما يحسب للكاتبة.
أيقونة الألف ياردة والانفصال:
هذه عتبة عنوان هذه الرواية، حيث انتهت هذه الحكاية وبطلتها تنظر نظرة الألف ياردة.. وهي نظرة الانفصال العاطفي عن الواقع بسبب الصدمات، وهي نظرة تصيب الجنود بعد الحروب من الأهوال التي مرت بهم حيث يكون الانفصال عن الواقع، وكذلك تصيب ضحايا الأنواع الأخرى من الصدمات، فيا لها من صدمات ويا لها من نظرة، وكان لاختيار هذا المشهد التراجيدي في أواخر الرواية أثر في إتقان حبكة الحكاية ورفع القيمة الفنية لها...
رواية تباين مليئة بالمشاعر والعواطف النفسية والعبر والأحداث، فيها الكثير من الحكم والعقل واللا عقل، رواية موجعة وسردية محزنة من التراجيديا والمأساة.
باختصار هي رحلة في جوانب أنفسنا المتباينة، المشرقة والمظلمة، واضطراباتنا، رحلة تتوغل داخل النفس البشرية فتشهد علوّها وانخفاضاتها المتعددة.. رحلة شاعرية ومشاعرية.
** **
د. ساير الشمري - دكتوراه في الأدب والنقد
@Drsayer_