كيف تحوّل علم العلامات أو ما يعرف بالسيميولوجيا الى علم القارئ؟ أو ذلك العلم الذي يعمل على إقصاء المؤلف و إحلال القارئ بدلا عنه؟ لتكون لهذا القارئ اليد العليا في عملية إنتاج النص، وهل تغيّرت النظرة الكلاسيكيّة للسيميولوجيا باعتبارها أداة للمتعة الجمالية في القراءة؟
فبعد أن أطلق جاك دريدا صرخته المدويّة (لا شئ خارج النص) يكون قد سلّم أو أعطى السلطة المطلقة للقارئ في تأويل النص، بالمقابل تحوّل رأيه الى إقصاءٍ تام للمؤلف الذي لم يعد موجودا، أو لم يعد له دور حقيقي في عملية إنتاج النص، فدوره قد انتهى بإنتاجه لنصّه، إذن فلسفة رولان بارث موت المؤلف تحوّلت إلى فلسفة النص و كلاهما يلتقيان في فلسفة القارئ، حسناً في ظل هذه الجدلّيات التي قادت النقد الى عوالم جديدة إبتعدت به تماما عن مدارس اللسانيين و الشكلانيين، حيث وضعتْ دعوة بارث و دريدا الأدب أمام مفترق جديد و مغاير تماما، و كان لا بدّ ان يكون لهذا المفترق معارضون، فكلُّ حركةٍ جديدة ستكون لها معارضون، لكن لماذا سلّم دريدا بفلسفة النص؟ و لماذا أعطى للقارئ كل الحقّ في تفسير النص؟ هذان السؤالان سوف يكوّنان المدار الذي يدور بهما هذا المقال، أمّا بالنسبة لمفهوم إقصاء المؤلف فقد وقفنا عنده والأسباب التي دعت إليه، و أمّا فلسفة النص فهي دعوة الى قراءة النص بعيدا عن كل المؤثرات التي لها علاقة بصاحبه، بمعنى الانفراد او الإكتفاء بالنص في عمليّة التأويل ويكون فارس هذا التأويل والاستنباط هو القارئ وحده، مكتفيا بالعلامات و الإشارات التي يرسلها النص بدون اي تفسير من صاحبه، و بالتالي يتحوّل علم العلامات أو السيميولوجيا إلى علم القارئ الذي ينتج النص من خلال كل قراءة، بمعنى يحوّل النص إلى مختبر لشروط إنتاجه الجمالي، من خلال بنية هذا النص التي تتشكل من خلال إعادة القراءة، التي تعيد بناءه بشكل تأملّي باعتبار هذا النص محاكاة لعالم واقعي او متخيّل، و لعلّ فلسفة دريدا جعلت هذا النص في مدار أفقي تدركه الحواس و آخره تكوّنه المخيّله من خلال إعادة إنتاج النص بفعل القراءة المتجددة، و هكذا تحوّل القارئ الى منتج للنص من خلال إنخراطه في إعادة تركيب المعنى المستنبط الذي يمتزج بوعي و ثقافة و قدرة التخييل لدى كل قارئ، هذا اذا نجح القارئ في فكّ شيفرات النص بمقابل إن نجح النص في إقناع القارئ في جمالياته الذاتية التي سوف يعيد ترتيبها و تركيبها، بحيث يعيد إنتاجه وفق هذه الرؤية الجديدة و هذا المخيال المبتكر، او من خلال إعادة إنتاج الوحدات المتخيّلة للنص او إعادة تركيبها وفقا لفكرة كل قراءة او لرؤية كل قارئ، و هكذا يتحوّل النص إلى كونٍ متخيّلٍ يعاد تركيبه وفق الإشارات التي يرسلها هذا النص مع كل قراءة جديدة، و وفقا لهذه العادلة يتكوّن النص من عدّة شيفرات :
1 سياق النسق: و هو ما توحي به أنساق الجملة من معانٍ.
2 سياق النص: و هو ما توحي به قصديّة النص.
3 السياق المتخيل و هو ما يكوّنه او يستنبطه كل قارئ من معاني جديدة.
فهناك واقع سياقي تكوّنه الجمل، و واقع نصي تدركه الحواس، و واقع داخلي يستنبطه القارئ، و هكذا تتحوّل المعادلة الى دوال و مدلولات و متخيّلات، بمعنى هنالك صورة و واقع و متخيّل، تعيد فاعليةُ القراءة تكوينَها لهذه العناصر، و بذلك تكون هنالك إعادة لإنتاج النص وفق هذه المعادلة.
وحسب دريدا لم يعد النص فقط مادةً لغويةً بل عالماً متخيّلاً يقوم على إعادة عملية الإستنباط و التأويل سواءا من خلال مفهوم العلامات او السيميولوجيا أو الإيحاء او مفهوم التخييل، فالنص أصبح مفتوحا أمام تعدد القراءات، من خلال رؤية دريدا الى مفهوم وظيفة الأدب، خاصة بعد أن أثبتت البنيوية عجزها على التواصل مع نظرية التلقي في عصر ما بعد الحداثة، فكان لا بد من تجاوزها الى نظرية النص او نظرية إقصاء المؤلف، حيث يحلُّ القارئ بدل المؤلف، و هكذا يتمّ إقصاء المؤلف من معادلة النص، فعلى سبيل المثال عندما نقرأ نصّا لشاعر من التراث، أو شاعر معاصر لكن متوفّى، فالظروف التي أحاطت بهذا المؤلف الذي كتب النص قد تلاشت، و أيّ إستحضار لها ليس له قيمة، لأننا نقرأ النص لا الظروف و ما نستنبطه من النص و ليس من ظروف كتابته و التي لا علاقة لنا بها، فهي قد تلاشت لكن النص لازال موجودا، و نستطيع قراءته و تحليله و تأويله و من ثَّم استنباط مفهومنا منه بكل قراءة جديدة، فالنصُّ أصبح مرآة عاكسة لتلك الصورة التي يكتنزها، و هنا تأتي قدرةُ القارئ على التخييل الذي يقود عملية الإستنباط، فلا بدّ من التسليم بمستويين، الأوّل الخارجي المنوط بالحواس و الآخر الموكل بالمخيال و هذا ما تتوقف عليه عملية الاستنباط ذاتها، و في كل هذا أين هو المؤلف؟ لا يوجد مؤلف فلقد تمّ إقصاؤه تماما من هذه المعادلة، لتحلَّ محلّه معادلة أخرى و هي معادلة (النص = القارئ ) لأنّ معادلة (النص = المؤلف) قد إنتهت تماما، فالنص - حسب دريدا – ليس وحدةً متكاملةً او كياناً مستقلاً مكتمل البناء، بل هو بناء لغوي متشظّي المعاني،هذه المعاني التي تُخفي او تكتنز معاني أخرى، لا يمكن الوصول إليها الا عبر الفجوات و التناقضات، التي تتوالد من خلال تشظّي هذه المعاني نفسها و مع كلّ إعادة قراءة جديدة نصل الى معنى متجدد للنص، و من اللا إنصاف أن تسمى عملية إعادة إكتشاف النص بعملية تدمير، فلم تكن في يومٍ ما أي عملية لإعادة البناء تدميراً للنص، بل تجديداً دائما للنص، من خلال ما يُخفيه هذا النص في داخله مما لم تفصح عنه ألفاظ النص الظاهرة، و هكذا أطلق جاك دريدا رؤيته بقوله ( اذا كان التفكيك مدمّرا حقّا، فليدمر ما شاء من الأبنية القديمة المشوّهة، من أجلِ أن نعيدَ البناء من جديد)، و السؤال هو هل هذا تدمير أم بناء؟ فالنظرة القاصرة إلى فلسفة التفكيك هي ( التدمير ) بينما النظرةالحقيقية إلى فلسفة التفكيك هي إعادة البناء و هذا ما أكّده بقوله ( من اجلِ ان نعيدَ البناء من جديد)، و في كل هذا أين دور المؤلف؟ لا يوجد له دور مطلقاً!! لأنّ دوره قد إنتهى بوضعه للنص، و في ظلّ هذه الرؤية تصبح عملية إقصائه تحصيل حاصل.
آليات التفكيك:
1 إقصاء المؤلف و الإحتكام الى النص .
2 الدخول الى النص عبر اللغة المكتوبة من خلال الثغرات والتناقضات.
3 تعدّد زوايا النظر للنص وإشراك القارئ في إنتاجها.
4 هدم البناء القديم للنص و إنشاء بناء جديد بإستخدام ألفاظ و صور النص الأصلي.
وهكذا تتحوّل العملية النقدية برمّتها إلى فلسفة النص، و النص وحده، دون مؤلفه الذي تم إقصاؤه من المعادلة التي لم يعد له أيّ دور بها، و هنا اريد أن استخدم هذا المثال الحيّ حول مفهوم إقصاء المؤلف، فلو أردنا أن نحلّل أهم كتاب عربي بلا شكّ بعد القرآن الكريم ألا و هو كتاب ألف ليلة و ليلة، فالمعروف عن هذا الكتاب الرائع إنّه مجهول المؤلف و لا أحد أستطاع أن يصل إلى حقيقة من كتبه؟ حيث تتحوّل عملية تلقي قراءة هذا الكتاب الرائع إلى عملية ديناميّة من خلال آليات الجمال و المعرفة عن طريق إعادة قراءتها رمزيا و إيحائيا و تخيليّاً من خلال الواقع التي تفرضه حكايات الكتاب و من خلال إعادة تركيب أحداث هذه الحكايات بشكل جديد، فلو أخذنا على سبيل المثال قصص مثل ( السندباد ) أو ( علي بابا ) او ( علاء الدين ) فهذه القصص لم تكن في هذا الكتاب و أقصد كتاب ألف ليلة و ليلة بالطريقة التي وصلت إلينا، بل ما حصل هو إعادة بناء لهذه النصوص من خلال هدم البناء القديم و إقامة بناء جديد من خلال ذات الشخصيات التي كانت في الأصل، عبر إلغاء الحدود بين الحدث الواقعي والمتخيل، و هكذا استمرت هذه النصوص كل هذا الزمن من خلال إعادة التصوّر و إعادة بنائها و تركيب أحداثها عبر الزمن، و هذا هو التفكيك و في كل هذا لا يوجد أي دور للمؤلف الذي لم يكن موجود أصلا لأنّ هذه القصص بلا مؤلف، وإّنما وصلت لنا عبر ذاكرة التراث و التأريخ، و هكذا تمّ تفعيل سحر الرمز ليلقي بتأثيره الكبير في علمية إعادة القراءة، و هكذا يحلّ القارئ بدل المؤلف، بل يصبحُ كلُّ قارئ هو مؤلف نصّه الذي يستنبطه و يفهمه و يعيد تشكيله وفق رؤية جديدة، و هكذا تحوّل القارئ من مستهلك إلى منتج للنص، و تحوّل المعنى الى معاني و تحوّلت اللذّة الى لذّات، و بإعادة كلِّ بناء جديد للنص ينتج عنها إعادة تركيب معاني جديدة و هكذا يستمر النص بالتجدد عبر الزمن، إنّها عملية إعادة بناء و ليس هدما كما يصفها بعضهم، الذين ظلّوا على معتقدهم القديم في عملية التحليل للنص من خلال الثالوث المقدس لديهم ( المؤلف النص المتلقي ) و الذي انتهى رسميا بعد دعوات كل من رولان بارث و جاك دريدا و عبد الله الغذاميّ الى إنهاء دور المؤلف بل إقصائه تماما من معادلة نصّه الذي وضعه، و أصبح الحقُّ كل الحق للقارئ هو من يعيد إنتاجه وفق رؤيته لهذا النص، هكذا يتحوّل القارئ إلى مركز للنص من خلال التأويل و الاستنباط ،و من خلال الإشارات التي يرسلها النص بدون اي تفسير من صاحبه، و بالتالي يتحوّل علم العلامات او السيميولوجيا الى علم القارئ الذي ينتج النص من خلال كلّ قراءة، فالمعنى عبارة عن دورة لغوية لا تعرف الاستقرار او النهاية، وهكذا نحوّل النص المغلق الى نص مفتوح دومًا لتأويل جديد، لأنّ دلالاته لا تُستنفد بل تتجدد مع كل قراءة و مع كل تأويل، فإنّ الوهم بوحدة و تكامليّة النص قد إنتهى، و تحوّل الى كيان لغوي مفتوح قابل للتأويل بل تعدد التأويلات من خلال فلسفة الاختلاف الذي يكون في بنية اللغة نفسها، المعنى لا يُخذ مرّة واحدة، بل يُرحَّل دومًا، مؤجلًا في سلسلة لا نهائية من الإحالات، من خلال عملية الاستنباط و القراءة، بعيدا كل البعد عن قصديّة المؤلف المقصيّ تماما من هذه المعادلة، لأنّ حضور المؤلف يعني حضور المعنى الواحد الذي يتولد في قصديته، لكن دريدا ي دعو الى إقصائه هو و ما قصده أصلا في نصّه، و ترك التأويلات و الإحالات تتكاثر و تتجدد و تتشظّى في وعي كل قارئ و في كل قراءة جديدة، و هكذا نصل الى مفهوم عمليتيّ التفكيك و فلسفة النص او رؤية جاك دريدا في في إقصاء المؤلف
** **
د.رسول عدنان - أكاديمي - الولايات المتحدة الأمريكية