في الثالث والعشرين من شهر سبتمبر من كل عام، يحتفل السعوديون بذكرى عظيمة تُجسد معنى الوحدة والانتماء، ألا وهي ذكرى اليوم الوطني، حينما أعلن الملك المؤسس عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود -رحمه الله- توحيد أرجاء البلاد تحت اسم المملكة العربية السعودية، وفي هذا العام، نحتفي بالذكرى الخامسة والتسعين لتأسيس الدولة السعودية الحديثة، وهي مناسبة وطنية تُجدد في النفوس الاعتزاز بتاريخ مجيد، وتُذكي في الأرواح مشاعر الفخر والولاء، وتُحفّز العزائم نحو المستقبل الواعد. إن هذا اليوم ليس مجرد ذكرى سياسية، بل هو رمز للهوية الوطنية ومرآة للقيم الحضارية التي قام عليها الكيان السعودي، بما يحمله من رسائل تاريخية، ومعانٍ ثقافية، ودلالات اجتماعية عميقة.
لقد مرّ توحيد المملكة بمراحل شاقة من الجهاد والتضحيات، حيث استطاع الملك عبدالعزيز أن يحوّل أرضاً ممزقة القبائل والكيانات إلى وطن موحّد، قائم على الشريعة الإسلامية، ومسنود برؤية سياسية واقتصادية متينة. هذا التوحيد لم يكن حدثاً عابراً في صفحات التاريخ، بل كان منعطفاً جوهرياً أعاد رسم ملامح الجزيرة العربية، ووضعها على طريق النهضة الحديثة، إن استحضار هذه المسيرة في اليوم الوطني يعكس إدراك الشعب السعودي لقيمة الوحدة الوطنية التي شكّلت أساس الأمن والاستقرار، وهو ما يفسر تعلق المواطنين الشديد بهذا اليوم، واحتفالهم به كمناسبة تجتمع فيها مشاعر الحب للوطن مع الاعتراف بفضل المؤسس والآباء الأوائل الذين سطروا بدمائهم هذه الملحمة العظيمة.
يأتي اليوم الوطني السعودي 95 ونحن نعيش في ظل قيادة حكيمة تواصل البناء على ما أرسته الأجيال السابقة من دعائم قوية، ففي عهد الملك سلمان بن عبدالعزيز وولي عهده الأمين الأمير محمد بن سلمان -حفظهما الله- تشهد المملكة تحولات نوعية في كافة المجالات، من خلال رؤية المملكة 2030 التي تسعى إلى تنويع الاقتصاد، وتعزيز دور المملكة الإقليمي والدولي، وتمكين المواطن السعودي ليكون محور التنمية وغايتها، إن ارتباط اليوم الوطني بهذه الرؤية يعكس أن ذكرى التوحيد ليست فقط حدثاً تاريخياً يُستحضر من الماضي، بل هي أيضاً قاعدة صلبة تُبنى عليها الطموحات المستقبلية، فالوطن الذي توحد على يد المؤسس، يتجدد مجده اليوم من خلال إستراتيجيات تنموية كبرى في الاقتصاد والثقافة والتعليم والتقنية، بما يعزز مكانة المملكة على الساحة العالمية.
إن مشاعر الفخر والاعتزاز في اليوم الوطني ليست محصورة في الاحتفالات الرسمية والشعبية التي تعم المدن والقرى، بل هي إحساس متجذر في قلب كل مواطن ومواطنة، ففي هذا اليوم، تتزين البيوت والمؤسسات بالعلم السعودي، وتُصدح الأناشيد الوطنية في المدارس والميادين، وتُرفع الأعلام في الشوارع والساحات، وكأن الوطن بأسره يردد نشيد الولاء والوفاء. هذه المظاهر لا تعبّر فقط عن فرح لحظي، وإنما هي انعكاس لرابطة وجدانية عميقة بين المواطن ووطنه. فالوطن في الوجدان السعودي ليس مجرد أرض يعيش عليها الفرد، بل هو كيان يتماهى مع هويته وكرامته وأمنه ومستقبله، إن الحب للوطن يُترجم في الالتزام بخدمته، والعمل على رفعته، والدفاع عنه، والحرص على صورته المشرقة أمام العالم.
اليوم الوطني هو أيضاً مناسبة للتأمل في المنجزات الكبرى التي حققتها المملكة خلال تسعين عاماً من عمرها الحديث، حيث انتقلت من مجتمع بسيط يعتمد على الزراعة والرعي إلى دولة عصرية ذات بنية تحتية متقدمة، واقتصاد قوي، ومكانة سياسية مؤثرة. لقد أصبحت المملكة اليوم قوة اقتصادية ضمن مجموعة العشرين، ووجهة عالمية في مجالات الاستثمار والسياحة والطاقة، فضلاً عن كونها منبع الرسالة الإسلامية وحاضنة الحرمين الشريفين. هذه الإنجازات لم تكن لتتحقق لولا التلاحم بين القيادة والشعب، ذلك التلاحم الذي يتجسد بوضوح في اليوم الوطني، حيث يعبّر الجميع عن وحدة الصف، وتماسك الجبهة الداخلية، والالتفاف حول القيادة الرشيدة.
ولا يمكن الحديث عن اليوم الوطني دون التطرق إلى البعد الثقافي والإنساني لهذه المناسبة، فالوطن السعودي هو فضاء ثقافي غني بالتراث والتاريخ والقيم الأصيلة، إن اليوم الوطني يمثل فرصة لإحياء الذاكرة التاريخية وتعزيز الوعي الثقافي لدى الأجيال الجديدة، التي تنشأ وهي تردد قصص البطولة والتضحيات التي قام بها المؤسس ورجاله، ومن هنا، فإن المدارس والجامعات والمؤسسات الثقافية تلعب دوراً محورياً في غرس قيم الانتماء والولاء في نفوس الطلاب، من خلال الأنشطة والفعاليات التي تُقام في هذا اليوم. فالهوية الوطنية تُصان بالعلم والثقافة كما تُصان بالعمل والسياسة، واليوم الوطني هو جسر يربط بين هذه الأبعاد المتكاملة.
كما أن هذه المناسبة تُعبر عن وحدة وجدانية بين مختلف مناطق المملكة، حيث يشارك الجميع في الاحتفالات دون تمييز أو اختلاف، إن مشاعر الوطنية تتجاوز الفوارق الجغرافية والقبلية لتجعل من الشعب السعودي جسداً واحداً وروحاً واحدة، فاليوم الوطني هو يوم التلاحم الشعبي بامتياز، يوم يذوب فيه كل ما يمكن أن يفرق ويعلو فيه صوت الوحدة، وفي هذا المعنى، تتجسد روح التضامن الاجتماعي التي تميز المجتمع السعودي، حيث يتعاون الجميع في سبيل رفعة الوطن وازدهاره، إن هذه الروح التضامنية هي امتداد للقيم الإسلامية التي تأسست عليها المملكة، وهي ما يجعلها صامدة أمام التحديات وقادرة على مواجهة الأزمات بثبات وقوة.
إن الاحتفاء باليوم الوطني السعودي 95 يحمل أيضاً رسالة إلى العالم، مفادها أن المملكة ليست فقط دولة ذات تاريخ عريق، بل هي كذلك دولة ذات مستقبل مشرق، فالإصلاحات الجارية في مختلف القطاعات تعكس صورة وطن يسير بخطى واثقة نحو التحديث، دون أن يفقد هويته الدينية والثقافية، إن المملكة في يومها الوطني تؤكد للعالم أنها أرض تجمع بين الأصالة والمعاصرة، بين الثبات على المبادئ والانفتاح على التطور، بين الحفاظ على التراث والتطلع إلى المستقبل، وهذه الرسالة تُعزز مكانة المملكة كدولة رائدة ومؤثرة، وتمد جسور التواصل مع مختلف الشعوب والثقافات.
ومن الجانب الوجداني، فإن اليوم الوطني يُلهب مشاعر المحبة في قلوب المواطنين، حيث يستعيد كل فرد ذكرياته مع الوطن منذ الطفولة، ويشعر بأنه جزء من قصة كبرى تُروى للأجيال، في هذا اليوم، يزداد تعلق الناس بالأرض التي نشأوا عليها، ويزداد شعورهم بالمسؤولية تجاهها، إن حب الوطن ليس شعاراً يُرفع في المناسبات، بل هو إحساس صادق يُترجم في الأفعال اليومية، في الإخلاص في العمل، وفي الدفاع عن القيم، وفي الحرص على الوحدة، ولهذا، فإن اليوم الوطني هو يوم تجديد العهد مع الوطن، عهد الوفاء والتفاني والتضحية.
ويبرز في هذه المناسبة أيضاً دور الشباب السعودي، الذين يشكّلون عماد المستقبل، إن مشاركتهم الفاعلة في احتفالات اليوم الوطني تعكس حيويتهم وحبهم لوطنهم، واستعدادهم لتحمل المسؤولية في خدمة البلاد، فالشباب اليوم هم بناة الغد، وهم الذين سيواصلون مسيرة التنمية والازدهار، وهم الذين سيحملون راية المملكة إلى آفاق أرحب، إن اليوم الوطني يُحفزهم على استلهام دروس الماضي، والعمل بإرادة صلبة من أجل مستقبل أفضل. وفي هذا السياق، تتضح أهمية الاستثمار في التعليم والتدريب والابتكار، باعتبارها مفاتيح تمكين الشباب وتحقيق طموحاتهم.
ولا شك أن الاحتفال باليوم الوطني يحمل أيضاً بُعداً روحياً، حيث يشكر المواطنون الله على نعمة الأمن والاستقرار، ويستشعرون قيمة العيش في وطن يحكمه الشرع، ويظلله السلام، إن الأمن هو أعظم ما يميز المملكة، وهو ما يجعلها ملاذاً آمناً لمواطنيها وزوارها، ومكاناً تزدهر فيه فرص التنمية. إن اليوم الوطني هو مناسبة للتذكير بهذه النعمة العظيمة، ولتجديد العزم على صيانتها والدفاع عنها، إدراكاً بأن الوطن هو أغلى ما يملكه الإنسان.
وفي خاتمة المطاف، فإن اليوم الوطني السعودي 95 هو يوم للفرح والاحتفال، ويوم للوفاء والتأمل والعمل، هو يوم نُجدد فيه انتماءنا لوطننا، ونُعبر فيه عن مشاعرنا تجاهه، ونؤكد فيه التزامنا بخدمته، إنه يوم يختزل تاريخاً عظيماً، ويُجسد هوية راسخة، ويُحفزنا لبناء مستقبل مشرق، في هذا اليوم، تتوحد القلوب تحت راية واحدة، وتصدح الحناجر بدعاء واحد: دام عزك يا وطن، وحماك الله يا مملكة الخير والنماء.
** **
شهد آل ردعان - طالبة ماجستير تاريخ وحديث معاصر