رواية الجريمة والعقاب للكاتب فيودور دوستويفسكي ليست مجرد حكاية بوليسية مشوقة عن جريمة قتل، بل هي رحلة فلسفية عميقة في دهاليز الروح الإنسانية.
دوستويفسكي يضع القارئ أمام سؤال جوهري كبير: هل يملك الإنسان الحق في تجاوز القوانين الأخلاقية إذا اعتقد أنه فوقها؟
هي تعبير عن مكنونات النفس البشرية الخفية، فتعكس الصراع بين الخير والشر.
كان هذا حال الصراع النفسي مع بطل رواية دوستوفيسكي الشاب «راسكولينكوف» طالب فقير معدم سمحت له بعض الاعتقادات الفلسفية باليقين أن من حق بعض الأشخاص ذوي الكرامة أن يزيلوا حشرة خبيثة عالة على المجتمع ليعيشوا هم فكان يؤمن بفكرة «الإنسان الاستثنائي»؛ أي أن هناك أشخاصًا عظماء يملكون الحق في تجاوز القوانين الأخلاقية إذا كان هدفهم أسمى، مثل نابليون. فحاول أن يضع نفسه في هذا المقام، ليثبت أنه فوق القوانين، وأنه قادر على كسر القيود الأخلاقية دون أن يهتز داخليًا.
لكن المفارقة العجيبة أن جريمته لم تؤكد استثنائيته، بل فضحت ضعفه وأغرقته في صراع نفسي خانق.
بعد أن قتل راسكولنيكوف العجوز، ظن أنه سيتحرر من قيود الفقر والعجز، لكنه وجد نفسه أسيرًا لأمر أكثر قسوة وحدة من مخالب الفقر: أسير الذنب والهلع. لم يكن يتوقع أن صوته الداخلي سيكون أقوى وأغلظ من أي قاضٍ في المحكمة، وأشد عذابًا للنفس من أي جلسة تحقيق.
أصبح يعيش في خوف دائم من انكشاف جريمته، يلاحق نظرات الناس بشك كأن كل العيون تتهمه، حتى أن كلمة عابرة أو حركة عادية كانت تثير في داخله رجفة ارتياب، هم بالتأكيد يعرفون! الجميع يعرف، هذا ما كان يدور في خلده طوال الوقت.
فلسفته عن «الإنسان الاستثنائي» تبخرت؛ أراد أن يثبت أنه قوي فوق الأخلاق والقوانين، لكنه اكتشف أنه هشّ ضعيف، وأن الضمير أقوى من منطقه المعوج. صار ممزقًا بين رغبته في التمرد على القوانين وبين حاجته للتكفير عن ذنبه. ومع كل لحظة، كان يشعر أن العقاب يسكن داخله ويعذبه قبل أن يصل إليه من الخارج. وهنا يكشف دوستويفسكي المفارقة الكبرى: أن العقوبة الأشد قسوة لا تُنفذها المحاكم، بل يُصدرها الضمير نفسه.
وبالنسبة لي أجد أن طرح دوستويفسكي لفكرة الذنب تُبرز عبقريته الأدبية؛ إذ جعل من راسكولينكوف مرآةً للإنسان في لحظات ضعفه وتناقضه، لا بطلاً استثنائيًا كما أراد لنفسه. الرواية تكشف أن الحرية بلا وازع داخلي تتحول إلى فوضى مدمرة، وأن أقسى العقوبات يسكنها الضمير ذاته. وربما هنا تكمن قوة الرواية: في قدرتها على دفع القارئ للتساؤل عن حدوده الأخلاقية، وعن مدى صموده أمام غواية الأفكار التي تبرر تجاوزها.
** **
- رغد سعود الكويليت