تابعت إصبعه وهو يشير لي حيث يجب أن أجلس، ودعني بابتسامة بدت مصطنعة، وهو يكمل ترحيبه الذي بالكاد سمعته، شكرته بعمق، ولاتزال الرعدة تجتاحني..
كان المقعد باردا ووثيرا، والطاولة لامعة وملساء ورائحة منظف الخزامى لاتزال تنبعث منه، كيف عرفوا أنني أفضل هذه الرائحة ؟ تنفست بعمق، وقد أحببت الخزامى أكثر، الرائحة تجعلني أصدق الواقع الذي أعيش تفاصيله الآن حقيقة، وليست حلما كعادتي منذ بدأت السباق على هذا المكان مع الدكتور خالد! بل أعيش فرحة الكسب الذي جعلني أخرُّ ساجدا شكرا لله تعالى، وقتها كان بي طاقة عمياء لأركض أمام الجميع كلاعب سجل هدفا في الوقت الضائع، وجلب الكأس لفريقه العريق! فبرغم إصراري ومحاولاتي للفوز بهذا المنصب كنت محطما في داخلي، حزينا جدا، وأنتظر متى تعلن هزيمتي وأنا بلا شهادة عليا، ولا دال تسبق حروف اسمي المسكين! كنت كلما تعالت خيبتي هاتفت أمي (أمي لقد تعبت)، وأعلم أنني ما إن ألقي كلماتي تلك في سمعها، ستفعلها! وستظل كمن يلهب حماستي وتقدمني للسباق، وهي تربت على حصاني الذي في داخلي، تصلح سرجه الذي مال عن ظهره قليلا، تربطه بإحكام، وسحابتها تمطرني بلذيذ الكلمات، تهطل في صحرائي فتخضر من جديد..
لم تكن أمي متعلمة بالقدر الذي يجعلها تفلسف الكلمات وتصففها، لكنها كانت تغرف من قلبها، ومن صادق تجاربها في الحياة، وتعاملها مع الآخرين، ومع قلبات الحياة ذاتها، في مدرسة الحياة تعلمت وتخرجت، ونالت أعلى الشهادات، أصبحت لي طبيبة نفسية، ومعلمة بارعة، وصديقة صدوقة، لم يكن عليها إلا أن تستفز فيني طاقتي على مواصلة السباق لتعلو وأحقق الفوز! إنها تسقي ثقتي التي زرعتها منذ كنت ذاك الصغير الذي يعود باكيا تسلط أحد المتنمرين عليه! لم تكن توبخني وتوصمني بالضعف، لأنها تعلم أن ذلك يهزني ويجعلني أضعف أكثر، كانت تصرفني عن ذلك الموقف بقطعة حلوى أو موزة أو حتى تخبرني بزيارة قريبة لمزرعة جدي، ولو لم تخطط لها مسبقا! ثم حين يهدأ وجعي تبدأ في زرع ثقتي وسقيها من جديد! تحكي لي مواقفها وهي صغيرة مثلا أو قصص إخوتها وربما والدي! وكيف سجلوا حضورهم بين الصغار وانتزعوا احترامهم بالقوة! بدون أن يضربوا أحدا من المتنمرين فقط لأنهم أظهروا قوتهم! ولأنني مازلت صغيرها مهما كبرت تظل معي في كل تفاصيلي، وبيننا مسافات لا يقربها إلا هاتفي حين يرن باسم (أمي القوية).
عدت لواقعي ووجدتني أشبك كفيّ خلف رأسي وابتسامتي تغرق عيوني! كان العم أبو جميل يكرر سؤاله لي وبدا مرتعبا لهذا الموظف الجديد الذي لا يسمع أستاذا هل تريد شيئا: قهوة أو فطورا؟
تنحنحت محرجا، وأنا أشكره وأهز رأسي نافيا، رغم حاجتي لمقهى كامل في هذه اللحظات، بل كل أنواع القهوة أريدها القديم منها والذي عرفناها مؤخرا..
عدت أتأمل غرفتي الصغيرة والصغيرة جدا لكنها بدت كقصر، كحصن عال تحصنت فيه من كل ما كان يقهرني، شعرت بوخزه ما تفسد علي تحصيني.
ماذا لو...؟! تمنيت ألا تتم الجملة الغادرة في نفسي وتفسد فرحتي بالنصر، أعرف نفسي حين ترتعب من اللحظات الجميلة فماذا لو لم أحصل على ما توقعته؟ أو ما تمنيته، وما قاتلت لأجله؟ نفضت رأسي بقوة لعلي أطرح تلك التوقعات السيئة يكفيني أنني هنا! أكرر جملتي لأعيش لحظات الفوز..
لا أدري لم قفز لخاطري أول يوم تركت فيه قريتي لأنتقل للعاصمة الرياض؟
يا لجمالها، وقد عرفت حنين أصحابي لها برغم ازدحامها وصخبها الذي لايطاق أحيانا، لكنها آسرة بالقدر الذي لاتستطيع أن تنفك منها!
كنت في قريتي أمارس روتيني الذي يطحنني كثور في ساقية! ولم أدر أنني جلبت الثور معي ونسيت الساقية ما إن حققت حلم الانتقال! كانت الأعمال مبعثرة وكثيرة ومتفرعة بالكاد ألتقط أنفاسي ليخرج لي شيء جديد، وأعداد الطلاب في الفصل لايطاق، وبالقدر الذي كانوا في قريتي ربما أعدهم على أصابعي، وأعرفهم وأعرف حتى أفراد أسرهم وأحلامهم وهواياتهم، وجدتني في لجة من عشرات الرؤوس الصغيرة التي بالكاد أعرف أسماء بعضهم ممن يجلسون في الصف الأول، تبعثر تركيزي في الصف، وكنت أرى ألعابا كثيرة تمارس في الخلف من الطلاب الأكبر والأطول، وقد فقدت السيطرة تماما، لهثت كثيرا وجف حلقي وقررت مرات كثيرة العودة إلى قريتي وهدوئي واتزاني وأمي! لكنني خشيت الخسارة الأهم، كنت أريد الاقتراب من هوايتي الحبيبة (الكتابة، التأليف، الصحافة، دور النشر، عالم الشهرة والقراء والتأثير) لم يكن لي ذلك وأنا في قرية بعيدة للتو وصلهم الهاتف الأرضي!
حتى وضع الله تعالى في طريقي من هزني بعنف وهو يقرأ قصصي المنشورة في الصحف، ويكاد فمه لاينغلق وهو يعرف أنني هو فعلا بمقالاتي الأنيقة كما يصفها وتحليلاتي الأدبية والاجتماعية ومشاركاتي في إعداد الصفحات الثقافية بالجريدة..قال بلهفة: ولم لا تجمعهما معا ( الوظيفة والموهبة)؟
لابد أن تنقل للوزارة ذاتها أنت مبدع في مجالك..خبرتك ككاتب ستقدمك بكل اقتدار.
وبالطبع نتأت (ماذا لو؟!) لتسحق كل ماكان يعصف بي أملا وفرحا وسعادة تملأ شدقي، ليسقط محمد جملته التي ملأت قلبي طمأنينة توكل على رب كريم، يالهذه الجملة العجيبة وهي تذكرني بكلمات أمي الحلوة، كان كمن يقدم لي قطعة الحلوى والموزة وحلم الذهاب لمزرعة جدي.
وحين دخلت السباق بعد فرز أسماء المتقدمين كان الذي ينافسني بحرف الدال الذي يسبق اسمه محبطا لي وأنا أرى تعابير وجهه وهو يطيل النظر لي باشمئزاز واضح، ونحن ننتظر دورنا في المقابلة مع اللجنة.. وكأني به يقول كيف لهذا الشيء يجرؤ على منافستي يلوي ساقيه على بعضهما ويدلي ذراعه، وينفض كفه لتظهر ساعته العالمية تلمع في كفه، ويخرج (سبحته الزمردية اللون) يحركها في ثقة بالغة، وهو يعلم أن القليل من أعضاء اللجنة يرفلون بحرف الدال الذي ينتفخ به! نودي اسمه فقام مزهوا يجر ثوبه خلفه ويخطو بحذاء لامع جدا، انحنيت تماما حتى لا تلتقي عينه بعيني كما توقعت، بعيد نصف ساعة خرج غاضبا تنتفض شفتاه بكلام غير مفهوم..شعرت بصدمة ما ومشاعر لا أفهمها أو لم أقرر ما أنا عليه بالضبط؟ هل أكون سعيدا لغضبه؟ ومالذي أغضبه؟ هل أعضاء اللجنة قساة حتى يغضبوا دكتور بمقامه؟ إذن ماذا سيفعلون بي؟ وحين جاء دوري انتفض كعصفور وأنا أحاول التماسك، وما إن تنقلت بين وجوههم ورأيت ارتياحهم وهم يستمعون لأحدهم يقدمني ويقرأ بعضا من سيرتي الذاتية حتى تنفست بعمق وملأت رئتي بالثقة، فجاءت أسئلتهم كشربة ماء بالنسبة لي ابتسموا معي وأنا أكر عصارة تجربتي في الإعلام والأدب حتى قرروا أنني الشخص المناسب الذي يمكن أن أفيدهم أكثر ممن يسبق اسمه حرف الدال! شعرت بلطفهم وابتسامتهم المتبادلة، خرجت ليس بالوجه القلق الذي دخلت به، وحين هاتفت أمي الحبيبة شعرت بارتياحي منذ الجملة الأولى واحتفلت معي وبي قبل أن أراني في قصري الذي أحسبه!
** **
- منيرة آل سليمان