تصبو الكاتبة الدكتورة زينب الخضيري في روايتها: (على كف رتويت) إلى قراءة الواقع الافتراضي من منظور القلق الذي يهيمن على اللحظة، فهذا الواقع ليس مجرد واقع موازٍ، تتحقق فيه المثل والأعراف والقيم والقوانين، سواء تم تنفيذها أم لم يتم في الواقع الحقيقي، ولكنه واقع افتراضي مخبوء ومقنع في الأغلب، لأن ناشطيه من النخب يريدون إبراز واجهة محددة إيجابية في الأغلب، فيما إن اختباء عدد كبير من منتسبي المواقع والميديا وراء الأسماء المستعارة، يغطي قدرا ما من غموض الشخصيات من جهة، وقدرا من حرية المحتوى سواء كان راقيا أم مبتذلا، وهنا تتحقق درامية الواقع الافتراضي الذي تنبذ فيه عناصر الحقيقة ومقوماتها، وتأتي الكاتبة لتسلط الضوء على مكونات هذا الواقع الافتراضي، وآليات اشتغاله ولكن بشكل سردي فني.
إن العمل الروائي لحظتئذ يتضامن مع الواقع، فالرواية تعبر عن الواقع بطرفيه:
الملموس المادي المعيش، والآخر: المتخيل الافتراضي، وما بينهما تتواتر الأحداث بكل سهولها ومفازاتها وصخبها وسكونها.
على أننا ونحن نقرأ الرواية، نفترض –أو نتوهم- أننا نشكل جزءا من الواقعين معا، لأننا نمارس الأحداث نفسها فيهما، ونقع على أفعالنا وهي تتجزأ ما بين الفعل في الواقع والفعل في المفترض والمحتمل.
هكذا شكلت البدايات الهوية الرؤيوية للرواية، ما بين العنوان المفارق، والبدايات الحلمية الكابوسية المتسارعة، وكما يبدو لنا من هذه البدايات فإن ثمة تناسبا ما بين العنوان الغرائبي المرتبط باللا معقول، وسرعة الفعل، وصدماته المتتالية كما في عالم الجن والعفاريت، وبين الأحداث التي انبثقت عن المشاهد الأولى للرواية في صفحاتها الأولى، وهي مشاهد ارتبطت بالعنف والحلم والكابوس، وانسربت من خلالها شخصيتا الرواية (علي المأجور) و(سامي) وهما صديقان تربطهما علاقات مديدة، وهما من يحركان أحداث الرواية منذ البداية.
على أن المرتكز الجوهري الذي تنبني عليه الرؤية الروائية يتمثل في عالم الميديا، وموقع التواصل الاجتماعي: تويتر الذي تغير اسمه إلى (X) لاحقا. (قام صاحب الموقع إيلون ماسك بتغيير مسمى الموقع إلى إكس).
إن البداية ما بين العنوان وتسارع الفعل الكابوسي في الصفحات الأولى للرواية تقودنا إلى إبداء جملة من النقاط، تتمثل في:
- أولا: إن الكاتبة ذهبت إلى اختيار عنوان غير تقليدي، مفارق، يتناسب والعالم الافتراضي الذي تطرحه الرواية وتدور حوله الأحداث.
- ثانيا: إن الكاتبة اصطفت هذا العنوان المفارق لتدل على فعل كتابة – ربما غير مسبوق – في بنى الرواية التي تتشكل كلها حول السوشيال ميديا، ولا تتوقف عند ظاهرة ما، أو تبدي كتابته في فصل ما أو عدة مشاهد.
- ثالثا: حولت الكاتبة العملية التناصية من مجرد استلهام نص من نص، إلى حركة مشهدية واسعة يصوغها تناص عرم ما بين الميتافيزيقي والواقعي، والافتراضي.
- رابعا: جوهرت الكاتبة خطابا روائيا يشكل أحد الخطابات البارزة التي تستهل الكتابة عن هذا الفضاء المعيش والذي ما يزال يشكل أمثولته العصرية المستمرة.
وتتكون رواية (على كف رتويت) (مسكيلياني للنشر والتوزيع، تونس، الطبعة الأولى 2020) من جملة من الأبنية التي تعزز من وجودها القيمي فنيا، فالرواية، كما سبق أن ذكرنا، تنطلق من عنوان مفارق، وصفحات متوترة وقلقة وكابوسية، تتواءم مع العنوان اللا معقول نفسه، الذي يبدي العالم ما بين مشهد موبايل تحمله الكف، وما يعج به العالم ويصطخب من أحداث، وشخصيات، ووقائع وأقنعة ووجوه وأسماء.
وتتعزز الرواية ببناء فني يتكون من لحظة زمنية مفتوحة تتمسرح فيها الأحداث، هي لحظة تعبر عن المرحلة، لكنها غير مرتبطة بزمن محدد، أو مرحلة تاريخية معينة يشار إليها بتاريخ ما أو واقعة، ولكنها مرتبطة بالفضاء الإنساني بوجه عام، وباللحظة التي أصبح فيها عالم السوشيال ميديا يحرك العالم والمجتمعات والإنسانية صوب تفاعل متوهج حيوي لحظوي، بغض النظر عن قيمته المثلى، يركز على تفاصيل الحياة اليومية، والواقع اليومي، والأحداث، ويبدي وجوه الإنسان، حقيقية أم مقنعة، التي تشارف الأحداث والعلاقات الاجتماعية وتتفاعل معها من خلال كتابات المشاركين والمشاركات في (تويتر).
هل هو عالم متخيل وافتراضي فقط؟
في حقيقة الأمر: إن المسألة صعبة التفسير، ذلك لأننا في مواقع التواصل الاجتماعي المتفاعلة نقوم بنقل ما يحدث في واقعنا إلى آلية تقنية، إلى (ميديا) وبالتالي نسهم في انتشاره وترويجه والتعريف به.
لكن السؤال هنا: هل ننقل ما هو حقيقي بالفعل في واقعنا؟ هل ننقل الأحداث كما هي بواقعنا؟
أتصور أن ثمة نمطا ما من التأليف بالزيادة أو الحذف، حتى في الصور أو الفيديوهات التي ننقلها، قد تتعرض لمنتجة ما وتغيير بعض حقائقها.
من هنا نحن نتعامل مع واقع ليس افتراضيا تماما، وليس حقيقيا تماما، وإنما هو واقع يتغلب عليه الهوى الشخصي، وما نريد أن نوصله من صورنا ووجوهنا بل وأقنعتنا، وما نريد أن نقنع به الآخرين.
إن الصورة هنا ليست صورة مثلى تماما، وليست نموذجية بالقدر الذي يمكن أن نفترض فيه وجود حقائق راسخة، فلا حقائق مكتملة في مواقع التواصل الاجتماعي.
من هذه الرؤية تنبثق الرواية لتحدد مشارف الوعي الإنساني في التعامل مع هذه التقنية، وكيف تتواتر الأحداث الراهنة وكيف تتجلى الصور الحقيقية والمقنعة؟
إن الكاتبة تنشئ روايتها عبر هذا الفضاء الإشكالي المتسائل.
** **
عبدالله السمطي - (شاعر وناقد من مصر)