الثقافية - علي بن سعد القحطاني:
الفلسفة ليست كتابًا مطويًا على رفوف المكتبات ولا خطابًا أكاديميًا منغلقًا على ذاته، بل ممارسة حيّة تتسلل إلى تفاصيل الحياة اليومية، تربك المسلّمات وتعيد تشكيل وعينا بالعالم، فهي القلق الذي يوقظ فينا الأسئلة ويضع اليقينيات المطمئنة على محكّ المراجعة، وحين طرحت صحيفة الجزيرة الثقافية سؤالها:
كيف تعيش الفلسفة بيننا؟
جاءت الإجابات متشابكة ومتنوعة لكنها التقت جميعها عند حقيقة واحدة هي أن الفلسفة ليست ترفًا نخبويًا بل حضور حيّ يتجاوز الكتب والمكتبات ليغدو حوارًا مفتوحًا مع الإنسان والحياة، فالدكتور عبد الرحمن الخنيفر قدّمها من زاوية القلق الثقافي بوصفها قوة تخلخل المفاهيم الراسخة وتزعزع البنى المغلقة وتضع المجتمع أمام امتحان المساءلة الدائمة، فيما ربطت الدكتورة منى الحضيف حضورها باللغة مؤكدة أن الكلمة هي بيت الفلسفة وأن التفكير لا يولد إلا في حضنها، فهي التي تحتضن المعنى وتفتح الباب أمام التأويل والتفكير، أما الأستاذ نايف الفيصل فقد شدّد على أن الفلسفة لا تكتمل إلا حين تغادر جدران الأكاديميا إلى فضاءات الإعلام والتعليم لتصبح شريكًا في تشكيل الوعي الجمعي وتمسّ أسئلة الناس اليومية، بينما أوضحت الأستاذة حزوا العجمي أن للفلسفة بعدًا نفسيًا يمنح الإنسان شجاعة مواجهة القلق والخوف من المجهول ويعلّمه كيف يتعايش مع الغموض بدل الارتهان لليقينيات الزائفة، وبهذه الرؤى المتداخلة التي تمتد بين الثقافة واللغة والمجتمع والنفس يؤكد استطلاع صحيفة الجزيرة الثقافية أن الفلسفة لا تقف عند حدود التنظير ولا تنحصر في الدرس الأكاديمي، بل تبقى قوة حية تعيد ترتيب علاقتنا بالوجود، وتفتح أمامنا أفقًا دائمًا للتفكير، وتذكّرنا أن الأسئلة أحيانًا أصدق أثرًا من الإجابات، وأن البحث عن المعنى هو جوهر التجربة الإنسانية منذ بداياتها وحتى اليوم.
الفلسفة والوعي المجتمعي
في البداية، يؤكد د. عبد الرحمن الخنيفر لـ«الثقافية» أن الفلسفة قلقٌ ثقافي يربك الأنظمة المستقرة ويزعزع المفاهيم المترسخة في الوعي الجمعي، فهي لا تستكين للموروث ولا تساير السائد، بل تنهض بالتحليل والمساءلة وتفكيك الظنيات ويجيب على السؤال من زاوية: الفلسفة بوصفها قلقًا ثقافيًا «لماذا تُثير الفلسفة قلق المجتمع أكثر مما تُثير فضوله؟» وقال :
تُجسِّد الفلسفة في جوهر حضورها، نمطًا من التفكير المُربِك للأنظمة المستقرة والمُزعزع للمفاهيم المترسخة في الوعي الجمعي فحين تخترق الأسئلة الفلسفية البنى المعرفية والأخلاقية والوجودية للمجتمع لا يكون التوتر الناتج عنها حدثًا طارئًا، بل مظهرًا طبيعيًا لتماسّ حادّ بين العقل الناقد والبنى العقلية التقليدية؛ ذلك أن الفلسفة لا تستكين للموروث، ولا تُساير السائد، بل تنهض لمنطق التحليل والمساءلة، وتستهدف بطبيعتها تفكيك الظنيات الراسخة، سواءً أكانت دينية أو ثقافية. ومن هذا المنظور، فإن القلق الذي تثيره الفلسفة في المجتمعات ليس سوى انعكاس لوظيفتها العميقة كقوة تشويش على البديهيات والمسلمات غير المفحوصة، وعامل خلخلة للبنى المغلقة. إن المجتمعات -بطبيعتها- تميل إلى الاستقرار والامتثال، وتجد في التقاليد والمعايير الثابتة سندًا للهُوية والأمان النفسي الثقافي.
ولذلك تُقابل الفلسفة بالريبة، إذ تُفسِح المجال أمام أنماط بديلة من التفكير؛ قد تُعرّض بنية السلطة الرمزية للاهتزاز، خصوصًا لدى الفاعلين المرتبطين بالمصالح الدينية أو الأيديولوجية. ولهذا، فإن حضور الفلسفة تاريخيًا تم -غالبًا- بين نقيضين: تغييب قسري أو تحييد مدروس، ولم تظهر إلا في لحظات استثنائية، قصيرة في عمر الزمن، كحالات التنوير، أو فترات النهضة، أو ازدهار الترجمة ولا تتعلّق هذه الممانعة بخلفية دينية محددة؛ فقد أبدت المجتمعات الوثنية والتوحيدية على السواء درجات متفاوتة من القلق إزاء الخطاب الفلسفي، ما يدل على بُعدٍ بنيوي يتجاوز المعتقد إلى البنية الثقافية ذاتها ومع ذلك، تُظهر المجتمعات الحديثة إمكانية التآلف مع الفلسفة عبر مسار طويل من الترويض المفاهيمي والتنوير المدني. حيث استطاعت بعض التجارب العقلانية -بعد قرون من التراكم- أن تُخضع الخرافة للتفكيك، وتُعيد عقلنة التديّن، وتُطوّع الفلسفة ل تكون أداة حاكمة للفكر لا محكومة له عربيًا، عدنا للمراحل الأولى من هذا المسار، بعد أن مُنينا بنكسات نهضوية وسياسية ودينية في القرن الماضي. كانت فترة ما بين الحربين العالميتين فرصة ذهبية للمصالحة بين التصورات الدينية والفلسفية في مجتمعاتنا، وبعد الحرب العظمى الثانية ساد النمط الفلسفي بفعل النخب الواعية، ثم عادت الخرافة مجددًا مع بعث الصحوات الدينية وتحالفاتها التقليدية محليًا وإقليميًا.
اللغة.. والخطاب الفلسفي
وتوضح د.منى الحضيف لـ«الثقافية» أن الفلسفة لا تُدرك ذاتها إلا عبر اللغة، فالكلمة نواة المعنى وبيت الفكر، ومن دونها لا يقوم للتفكير وجود. ومن خلال التأمل والتأويل يكشف الخطاب الفلسفي ما وراء الظاهر، ليمنح الإنسان قدرة أعمق على فهم الواقع. وتجيب على السؤال من واقع تخصصها في اللغة العربية وآدابها، وتقول:
اللغة هي أساس التواصل والفكر الإنساني، فهي ذات قدرة خالقة وتأسيسية، وهي المفسر لكل الأنساق الرمزية، تقوم بوظيفة التبادل اللفظي، والتوافق الفكري، فاللغة موجودة في كل مظاهر الوجود، كنافذة مفتوحة دومًا على التأويل ومتغيرات السياق، تنظم تجربة الإنسان في انفصال كلي عن الزمن.. تحتضن المعنى في أعماقها؛ إذلا يمكن للمعنى أن يكون خارج اللغة؛ فهي الوجود المرئي له.
والكلمة نواة اللغة، وهي علامة تحمل مفهومًا هو المدلول، والصورة السمعية وهي الدال، وهي مستودع الدلالات والمعنى، فلا تدل على الشيء، بل تدل على شخص يفكر في الشيء والفلسفة هي التفكير.. والتفكير يولد في اللغة، واللغة تنطق الكلمة، وتروض الوجود الطبيعي، لذا لا يمكن للفلسفة أن تدرك نفسها خارج اللغة؛ إذ الفلسفة نوع من النشاط الذهني يؤدي غرضًا، فتعلل وتفسر العوامل الكامنة خلف المظهر السطحي للغة، وهي تحليل منطقي للعلم، وفعالية يتضح من خلالها المعنى؛ إذ تعمد الفلسفة إلى تحليل أسس المعرفة من أجل توضيح المعنى ، والبحث في الكليات بطرق تحليلية وتركيبية، تفكيرًا فيما وراء الظاهر والتأمل في الحزئيات.إن الفلسفة تعبر عن نفسها بنظرتها الكلية للعالم والوجود الذي يعيشه الإنسان، من خلال التأمل والتأويل، وتركيب الجزئيات التي يكشفها باطن مدلول الكلمات؛ لتثبت حضورها، وقدرتها على فهم الواقع من خلال المعنى المكنون في الكلمات.
فضاءات التعليم والإعلام
ويشير الأستاذ نايف الفيصل لـ«الثقافية»من واقع إدارته للعلاقات العامة والتواصل بجمعية الفلسفة السعودية إلى أن الفلسفة تتحول إلى شريك في تشكيل الوعي حين تغادر جدران الأكاديميا إلى فضاءات الإعلام والتعليم، وتمسّ أسئلة الناس اليومية وهمومهم المباشرة ويقول:
تعيش الفلسفة في المجتمع حين تخرج من جدران الأكاديميا إلى ساحات الحياة. حين يتحدث بها الإعلام.. ويفكر بها التعليم حين تبدأ في الاشتباك مع أسئلة الناس اليومية وتمسّ همومهم حين لا تعود الفلسفة موضوعًا للشرح، بل تصبح أسلوبًا في النظر وطريقة للعيش ليست الفلسفة رفاهًا ذهنيًا.. بل فنّ طرح الأسئلة التي نحاول الهروب منها هي ليست عن أفلاطون وهيجل فقط، بل عن أنفسنا.. عن اختياراتنا التي لم نفهم دوافعها بعد.. عن مواقفنا.. عن صمتنا.. وعن معنى أن نعيش.. أن نواصل رغم التعب.
نحتاج إلى الفلسفة لأن الحياة تُثقلنا بالإجابات، وتدفعنا لأن نُسلّم بكل ما يُقال بثقة.. بينما الفلسفة وحدها تهمس للسؤال، وتوقظ فيه الحياة من جديد. يبدأ وعينا حين نستوعب جهلنا. حين لا نستسلم للإجابات الجاهزة التي تُرضينا أكثر مما تُنيرنا وكلما اتسعت فينا المساحة للسؤال ضاق فينا غرور المعرفة! ذلك الغرور الذي يُغشينا باليقين ويمنحنا شعورًا زائفًا بأننا نعرف بما يكفي لنحكم على كل شيء وعلى الجميع.. الفلسفة لا تفرض علينا طريقًا.. لكنها تمنحنا شجاعة التفكير والتساؤل.. وحين نمنحها هذا الحضور لا تعود شيئًا ندرسه أو نخافه.. بل طريقة في أن نكون.
الفلسفة.. ومواجهة الموت
وتوضح الأخصائية النفسية حزوا العجمي في حديثها لـ«الثقافية» أن الفلسفة تمنح الإنسان شجاعة مواجهة القلق والخوف من الموت، وتدرّبه على تقبّل الغموض بدل الارتهان لليقينيات الجاهزة، لتصبح طريقًا لعيش اللحظة بوعي ويقظة ذهنية. وعن سؤال ما الذي يمكن أن تقدمه الفلسفة للإنسان في حالة القلق؟ وتقول:
القلق حالة خوف مستمر من صور النقص، تبدأ منذ لحظة الانفصال الأولى، وتتشعب لاحقًا لتشمل الجسد والمال والعلاقات والمصالح، وصولًا إلى الخوف الأكبر من الموت. ومن هنا تصبح الفلسفة تدريبًا على المواجهة؛ فهي، كما عبّر أفلاطون، نوع من التهيؤ للموت، ما يجعل المتفلسف أقل جزعًا من غيره. وتضيف العجمي أن الفلسفة بمحتواها فعل مواجهة مع الذات والعالم، فهي تقوّي الإنسان فكريًا وانفعاليًا، وتمنحه المسافة لفحص ما يخشاه دون أن ينصهر فيه، وتساعده على تحويل خوفه من الموت إلى دافع لعيش حياة أصيلة كما ذهب هايدغر، بدلًا من الهروب أو الإنكار.
وتستشهد بقول أبي العلاء المعري: «أما اليقين فلا يقين، وإنما أقصى اجتهادي أن أظن وأحدسا» لتؤكد أن الفلسفة تدرّب الإنسان على الشك وتحمّله الغموض، وهو ما يعالج جوهر القلق القائم على رفض المجهول وطلب اليقين المطلق. أما أبيقور فيلخّص الدعوة إلى عيش اللحظة بقوله: «نحن نولد مرة واحدة ولا يمكن أن نولد مرتين… ولكنكم يا من لا حكم لكم على الغد، لا تزالون تسوفون سعادتكم: فتهدر الحياة ويموت كل واحد منا وهو مثقل بالهموم». وهكذا، تلتقي الفلسفة مع مفاهيم العلاج النفسي المعاصر في الحث على اليقظة الذهنية واغتنام اللحظة كوسيلة لتجاوز القلق ومواجهة الخوف.