الثقافية - سطام الحقباني:
حين يتكئ الشاعر على اللغة، لا ليصفَ العالم بل ليعيد تشكيله من الداخل، تنبعث القصيدة كوميض تبدأ معه الحياة.. هو شاعر عذبٌ يوقظ ما خبا في أرواحنا من أسئلة ودهشة، في عالم يزداد اتساعه بالضجيج ويضيق بالمعنى.
الشاعر العذب (عبدالكريم العودة) واحد من الأصوات التي اختارت الصمت حين اختار الجميع البوح، والتأمل حين انشغل الكثيرون بالعرض؛ شاعر تتكئ تجربته على الصدق، لا على الضجيج، وعلى الفكرة العميقة لا على المجاز السهل، قصيدته لا تطرق أبواب القارئ فحسب، بل تطرحه في قلب الأسئلة الكبرى عن الزمن، والوجود، واللغة، والغياب، والحب، والذكرى.
ولأن الشعر ليس فنًّا معزولًا عن الحياة، بل هو وجهها الآخر، كان لا بد أن نُصغي إليه لا بوصفه نصًّا جماليًا فقط، بل كوعي يتشكّل، ورؤية تتخلّق، في هذا الحوار، نقترب من عبدالكريم العودة بشخصه لا بشعره، ونمشي معه في حدائق أفكاره لا ورود أبياته، ونتلمس ملامح الظلال التي تشكّل رؤيته للقصيدة، والعزلة، والحداثة، وغياب النقد، ومسألة الترجمة، وتحوّلات الذائقة، والمشهد الشعري السعودي والعربي.
(الشعر كأفق فلسفي يتجاوز جمال اللغة والتعبير)
هل ترون أن للشعر دورًا فلسفيًا في حياة الإنسان، يتجاوز حدود المتعة الجمالية اللحظية التي ترسمها الصورة الفنية وتكثفها المعاني الرمزية؟
منذ عصر أفلاطون الذي طرد الشعراء من جمهوريته إلى يومنا هذا والنقاد يتساءلون عن وجود دورٍ للشعر في حياة الإنسان، يتجاوز ما خُلقَ الشعر لأجله، من المتعة الفنية والجمالية، والأثر النفسي العميق الذي يشبه أثر الموسيقى والنحت والتصوير.
لكننا لو تأمّلنا في الأمر قليلًا، لوجدنا أن ثمة قاسمًا مشتركًا بين الشاعر والفيلسوف، خيطًا رفيعًا يجمع بينهما، يتمثل في أن كلًا منهما يبحث بطريقته الخاصة عن المعنى، معنى الحياة والوجود والإنسان.
من هنا، فإن المعلم الأول أرسطو، على النقيض من أفلاطون، قد أعلى من شأن الشعر، وأشاد بقيمته وأهميته الفلسفية والاجتماعية، باعتباره أداة للتطهير الأخلاقي والنفسي.
فالشعر إذن، بما هو رؤيا، وتبصّر، واستشراف، يؤدي دورًا جوهريًا عميقًا، في إرواء الظمأ الروحي للإنسان، وتشكيل وعيه، وتهذيب أسلوبه ورؤيته للحياة. وقد عبر كبار الشعراء عن رؤى فلسفية عميقة للكون والوجود، وعن طبيعة الحياة والمصير، بلغة شعرية صافية، فائقة الجمال، كأبي العلاء المعري، وجلال الدين الرومي، وعمر الخيام، وطاغور، ومحمود درويش، وأدونيس، وصلاح عبد الصبور، وسواهم من كبار الشعراء على مر التاريخ.
متطفّلو الشعر (يهزّون المنابر ابتغاء الشهرة لكنهم ينطفئون سريعًا)
أشرتم في حوار سابق نشرته مجلة اليمامة إلى ظاهرة ازدياد «متطفلي النثر»، ولا سيما في الرواية. فهل ترون أن هذه الظاهرة تمتد أيضًا إلى ساحة شعراء التفعيلة؟
نعم، هي تمتد إلى كل الفنون الأدبية تقريبًا، بما في ذلك الشعر، الذي هو أكثر إغراء وسهولة للدخول إلى عالم الشهرة، وما من جيل من أجيال الشعر إلا وتجد فيه العشرات، بل المئات من الشعراء الذين خاضوا في التجربة الشعرية بلا موهبة، ولا ثقافة، ولا صنعة، تجدهم يهزّون أركان المنابر، ويملؤون الدنيا ضجيجًا، في المحافل الأدبية والمسابقات المليونية، ابتغاء الشهرة، والكسب المادي، وجريًا وراء أحلام المجد والنجاح، لكنهم ينطفئون سريعًا، ويصبحون مع مرور الزمن نسيًا منسيّا!
وظاهرة الشعراء المنسيين قديمة في تاريخنا الأدبي، لا يكاد يخلو منها عصر من عصور الشعر القديمة والحديثة، فهناك آلاف الأسماء الشعرية في العصر الأموي والعباسي، وفي الشعر الأندلسي، ذهبت كلها أدراج الرياح، ولم يبق منها على قيد الذاكرة سوى قلة معدودة، ما زلنا نقرأ لها، ونردد أشعارها، إلى اليوم.
قال الراوي: إن الشاعر جريرا، قارع ثمانين شاعرًا في عصره، فغلبهم جميعًا، ولم يبق منهم اليوم إلا ثلاثة: الفرزدق، والأخطل، والراعي النميري، فإلى أين ذهبوا يا ترى؟
(الشعر الحداثي في السعودية.. تزامن وامتداد)
عند الحديث عن الشعر الحداثي، تبرز أسماء رائدة مثل نازك الملائكة والسيّاب في العراق، وأمل دنقل وعبد الصبور في مصر. من وجهة نظركم، من يمثل هذه المرحلة أو أسس لها في المشهد الشعري السعودي؟
ما من حديث عن الحداثة الشعرية في المملكة، إلا ويبدأ بالشاعر الرائد محمد حسن عواد، الذي سبق السيّاب ونازك الملائكة، في رأي بعض النقاد. لكن حركة الحداثة بوصفها تيارًا عامًا، أوجد حراكًا أدبيًا وثقافيًا تجسد في الندوات والأمسيات والملاحق ال أدبية، قد بدأت في الحقيقة في الستينيات ومطلع السبعينيات من القرن العشرين، على يد عدد من الشعراء الذين واكبوا حركة الحداثة في العراق والشام ومصر، مثل محمد العلي، وغازي القصيبي، وسعد الحميدين، وأحمد الصالح، الذين مهدوا الطريق لجيل الثمانينيات الصاخب، الذي تزامن مع صعود التيار المحافظ، ودخل معه في شجار مرير، ولمع فيه كوكبة من الشعراء والشاعرات، من بينهم محمد الثبيتي، وعبد الله الصيخان، ومحمد الحربي، وعبد الله الزيد، وخديجة العمري، وأشجان هندي، وغيرهم من الأسماء التي لا تحضرني الآن.
على أننا لو أردنا اصطفاء أبرز رائدين في الحركة الحداثية عامة، منذ بداياتها الفعلية الجادة، فلن نتجاوز تجربة الشاعرين الكبيرين: غازي القصيبي، ومحمد العلي.
(التجريب هو أبو الفنون جميعًا)
هل يمكن أن يكون التجريب في القصيدة الحداثية أداة للكشف عن آفاق جديدة في التعبير الشعري، أم أنه قد يتحول إلى غاية في ذاته تُفقد الشعر صدقه وفاعليته؟
التجريب هو أبو الفنون جميعًا، فمثلما كانت القصيدة الحديثة نفسها ثورة تجريبية على القصيدة العمودية، يظل التجريب حقلًا من حقول التطور والإبداع في الشعر الحديث. وقد كان شعر الموشحات الأندلسية في وقته نموذجًا تجريبيًا أوجد فنًا جديدًا مواكبًا لرفاهية الحالة الاجتماعية وازدهار الغناء والموسيقى في الأندلس، كذلك كانت القصة في بداياتها، في القرن الثامن عشر، مخاضًا تجريبيًا للانقلاب على فن الملحمة الإغريقية، وبزوغ فن جديد هو فن الرواية كما نعرفه اليوم.
(الشعر الحديث ليس شعر مناسبات اجتماعية يتفاعل معه الجمهور..)
هناك من يرى أن القصيدة العمودية تمتلك القدرة على احتواء موضوعات إنسانية وشعبية وإقليمية عميقة، فهل ضعف مقروئية الشعر الحداثي يعود إلى أسلوبه التعبيري وتكوينه الجمالي، أم إلى عوامل أخرى تتعلق بذائقة المتلقي؟
في رأيي المتواضع، لا تختلف القصيدة الحديثة عن القصيدة العمودية، في القدرة على التعبير عن أدق المشاعر الذاتية، والهموم الإنسانية، وتجسيد رؤيا الشاعر ونظرته للكون، والحياة، والإنسان، لكن الشعر في طبيعته ليس فنًا شعبيًا، والشعر الحديث بوجه خاص ليس شعر مناسبات اجتماعية، يتفاعل معه الجمهور عند إلقائه على المنابر، وقد يكون الشعر العمودي، بطبيعته الغنائية، أقدر على احتواء المناسبات الوطنية مثلًا، والتعبير عنها بنبرة مثيرة ومؤثرة، لكنه يظل مرتهنًا لهذه المناسبات، يزول أثره بزوالها.
(شعراء الحداثة السعوديون وظفوا الشخصيات والرموز الدينية في قصائدهم)
تأثر المشهد الشعري في لبنان إلى حد بعيد بالتجربة الفرنسية، ولا سيما في مرحلة الحداثة، فإلى أي منابع فكرية وجمالية تأثر شعراء الحداثة في السعودية؟ وهل يمكن رصد ملامح هذا التأثر في بنيات النصوص أو موضوعاتها؟
تأثر شعراء الحداثة في لبنان، ومصر، والعراق، بالشعر الإنجليزي والفرنسي، وتحديدًا بأسماء شهيرة، مثل تي. إس. إليوت، عزرا باوند، بودلير، مالارميه، رامبو، وسواهم، وكان من أبرز مظاهر هذا التأثر كسر عمود الشعر التقليدي، والاعتماد على التفعيلة، وارتياد موضوعات جديدة تتمركز حول القلق الوجودي، والاغتراب، والضياع، والتعطش إلى الحرية، وانعكس كل ذلك على شكل القصيدة، وبنيتها الرمزية، التي تميزت باستحضار الرموز التاريخية، والأساطير القديمة، للتعبير عن رؤى وتجليات شعرية جديدة.
ولم يكن شعراء الحداثة في المملكة بمعزل عن هذه التأثيرات، فقد غمرتهم رياح التغيير، سواء على مستوى شكل القصيدة، وبنيتها الرمزية، أو في موضوعاتها التي أخذت صبغة محلية عبر استحضار الشخصيات، والرموز التاريخية والدينية في الجزيرة العربية، كما يبدو واضحًا في شعر علي الدميني، وعبد الله الصيخان، وأحمد الصالح، ومحمد الثبيتي، وزملائهم.
(الشاعر باحث عن المعنى.. المفكر باحث عن الحقيقة)
في رأيكم، هل تظل الحقيقة غاية الشاعر في نصّه الشعري، حتى وإن اختبأت خلف كثافة الرموز، وتشعّب الإحالات، وانزياحات اللغة؟
الشاعر لا يبحث عن الحقائق المجردة، كما يبحث عنها المفكر والفيلسوف، بل يبحث عن المعنى وراء هذه الحقائق، الشاعر يقدم رؤى واستشرافات، بلغة رمزية ونص مفتوح، متعدد الدلالات، أو كما يقول الجاحظ: «الشعر صياغة وضرب من التصوير»، والشاعر هنا أشبه بـ«العرّاف» الذي يستبصر المستقبل: «جئت عرّافًا لهذا الرمل..»، كما يقول محمد الثبيتي. وهذا هو سر الأسرار لخلود الشعر وبقائه على مر الأزمان.
(موت النقد) ظاهرة في ساحة الشعر ومتوارية في ساحة السرد
في ملعب النثر، حيث القصص والروايات تتعدد، يقف النقاد كحكّام تتنوع نظرياتهم وقراءاتهم، أما ملعب الشعر، بأشكاله وتحوّلاته، فيبدو شبه خالٍ من هؤلاء الحكّام، فهل أغلق محترفو الشعر أبواب ملعبهم في وجه النقد؟ أم أن النقاد أنفسهم عجزوا عن موا كبة ما طرأ على الشعر من تحوّلات وتأويلات؟
يبدو أن تراجع النقد الشعري، مقابل ازدهار الدراسات والبحوث السردية والروائية، ليس ظاهرة محلية خاصة بنا، بل تكاد تكون ظاهرة عالمية، وهذا رأي شائع ومتداول بين العديد من النقاد والباحثين في المشهد الأدبي العربي والعالمي، وقد يرجع ذلك إلى سرعة التحولات الثقافية والاجتماعية إثر ثورة الاتصالات والمعلومات، في العقود الأخيرة، ومن ثم صعود الرواية وانتشارها الواسع لدى القراء، نظرًا لقدرتها على معالجة قضايا التحولات اليومية وتعقيداتها الاجتماعية والسياسية والإنسانية بشكل أكثر وضوحًا وشمولًا من الشعر، إضافة إلى أن الرواية، بطبيعتها السردية، تتيح للناقد مساحة أوسع لمعالجة الظواهر الاجتماعية، والثقافية، والإنسانية، بقدر أكبر مما يتيحه النص الشعري، لكني، مع ذلك، لا أذهب بعيدًا إلى القول بـ «موت النقد» الشعري، كما يذهب إلى ذلك غُلاة النقاد والباحثين.
(ما الذي يبقى من القصيدة بعد ترجمتها)
يرى بعض النقّاد أن ترجمة الشعر العربي إلى اللغات الأخرى تفضي إلى فقدان جزء كبير من وهجه الجمالي، سواء في الإيقاع أو التراكيب أو البنية اللغوية الخاصة، من وجهة نظركم، هل تمثّل هذه الخسارة عائقًا حقيقيًا أمام نقل روح القصيدة إلى ثقافات أخرى؟ أم أن الشعر يملك من الطاقة الإنسانية ما يتيح له العبور رغم اختلاف اللغة؟
سؤال الترجمة يطرح إشكالية أدبية عميقة، حيرت الأدباء والشعراء والنقاد جميعًا، ذلك أن القصيدة ترتبط ارتباطًا وثيقًا باللغة الأصلية التي كُتبت بها، وبدلالة الكلمات فيها، وإيحاءاتها، وظلالها، وبإيقاعاتها الموسيقية، وأبعادها الرمزية، التي قد تتغير وتفقد معناها وخصوصيتها، عند ترجمتها من لغتها الأصلية إلى لغة أخرى؛ لكن السؤال هو: ما الذي يبقى من القصيدة بعد ترجمتها؟
من المسلّم به أن القصيدة ستفقد وزنها، وإيقاعها الصوتي، وجرس الكلمات التي لها في لغتها الأصلية، والتي تختلف عنها في أية لغة أخرى؛ لكن المترجم إذا كان شاعرًا متمكنًا، وملمًا بثقافة اللغة الأصلية، واللغة المترجَم إليها، يستطيع نقل المعنى الجوهري للقصيدة، وأبعادها الروحية، والمعاني الإنسانية الكبرى التي تشتمل عليها، كما يستطيع التعبير عن الموضوعات الإنسانية المشتركة، كالحب، والقلق، والغضب، واليأس، والأمل، وكذلك يستطيع نقل الصور والاستعارات والاحتفاظ بالقدر الأكبر من تأثيرها على القارئ في اللغة الأجنبية.
(أتواصل في عزلتي مع الأموات في بطون الكتب.. أسمع همساتهم وأصواتهم)
وأنت مقلٌّ في حضورك؛ يتبادر إلى الذهن سؤال يطرقني باستمرار: هل يعيش الشاعر عزلته كخيار ذاتي، أم كقدر لا فكاك منه؟ وهل يُعدّ النص الشعري محاولة للانعتاق من تلك العزلة، أم تجسيدًا حسيًا لها؟
تتيح العزلة للشاعر فرصة ذهبية لمناجاة نفسه، وتأمل ذاته، وصقل تجربته الروحية والإبداعية، بعيدًا عن مشاغل الحياة اليومية، وضجيج الشوارع، ولَغًط العالم المادي الصاخب. وهي عزلة يختارها الشاعر بمحض إرادته، تلبية لحاجة نفسية، ونداء داخلي يجري في وجدانه، بما يشبه أن تكون «خلوة» نفسية، للصفاء الذهني، والتحرر من قيود الأفكار التقليدية، وملاذا آمنًا للكتابة في جو من الإلهام والإبداع. وفي هذا النوع من العزلة، أنتج كبار الشعراء أعظم قصائدهم، والروائيون أجمل رواياتهم، والفلاسفة أعمق مشاريعهم الفلسفية.
وقد كنت منذ مطلع حياتي محبًا للعزلة، أعتزل الأحياء، وأُجري تواصلًا ممتعًا مع الأموات، أجدهم ينعمون بسباتهم في بطون الكتب، وما إن أقترب من رفوف مكتبتي حتى أسمع همساتهم وأصواتهم، أقترب منهم أكثر، أفتح كتابًا من الكتب، فيخرج صوت من أعماق التاريخ، يؤنس وحشتي، وأدخل معه في تواصل إبداعي صامت لا ينقطع!
لكننا اليوم، في عصر المعلومات وثورة الاتصالات، وموجة الكتب الرقمية، وارتهان حياتنا اليومية للأجهزة التقنية، ووسائل التواصل الاجتماعي، أصبحت فكرة العزلة أكثر تعقيدًا، وصار الحصول على قدر كافٍ من العزلة صعب المنال.
على أنني لا أؤمن بالعزلة الدائمة، والانفصال الكلي عن حياة الناس، فضلًا عن استحالة ذلك في هذا العصر المزدحم بأجهزة التواصل، لكن قد يلجأ الكاتب إلى عزلة مؤقتة، أو بالأحرى عزلة متقطعة، على غرار الصوم المتقطع، يلجأ إليها الشاعر، وكذلك الكاتب والأديب، ويلجأ إليها المفكر والفيلسوف أيضًا، إذا استطاع المرء تنظيم وقته، واعتزال الإنترنت فترات ينعم فيها بالتأمل والقراءة والتفكير، وهي «عزلة رقمية» إن صح التعبير، ما زلت ألجأ إليها، وأعتمدها في حياتي اليومية، منذ ظهرت وسائل التواصل، واقتحمت علينا بيوتنا، عنوة بلا استئذان.
مقتطف من قصيدته (لا وطن مثلما أشتهيك) المكتوبة في عام 1980