لاحظت تكرار كلمات مثل العالمية والوصول إلى العالمية كثيراً على منابر الإعلام السعودية المختلفة، لكن ماذا تعني العالمية حقاً؟ وهل هي غاية في حد ذاتها، أم ثمرة طبيعية لعمل أدبي قوي الجذور؟ إذا اتفقنا أن العالمية تعني أن الرواية أو القصيدة السعودية لا تبقى محصورة في فضاء الرياض أو جدة أو مكة، بل تصل إلى قارئ في باريس أو طوكيو أو نيويورك وتثير فيه الأسئلة ذاتها، فإنها ليست مجرد وسام أو غاية نهائية، بل انعكاس لقدرة النص على تجاوز محليته والانفتاح على قضايا إنسانية كبرى، مع بقائه صادقاً لتفاصيل مكانه وزمانه.
وإذا كانت العالمية تعني الحصول على جوائز أدبية عريقة مثل “نوبل” أو “بوكر الدولية”، فهي بلا شك تُعطي زخماً للأدب، لكنها أيضاً تخضع لأمزجة السوق الثقافي الغربي، مما يجعل الطريق إليها معقداً وطويلاً.
من النماذج السعودية التي تستحق النقاش هنا هي رواية بنات الرياض التي أشبعت اهتماماً، وهي تكاد تكون ظاهرة لما أحدثته من لفت انتباه في المشهد الثقافي العالمي. فحين صدرت رواية بنات الرياض عام 2005 أحدثت ضجة داخل المملكة وخارجها، وتمت ترجمتها إلى الإنجليزية بسرعة لدار “بنغوين”، لتصبح حديث الإعلام الغربي. هذه الرواية انتشرت لأنها جاءت بجرأة غير مسبوقة في وقتها، و– أشدد على كلمة الوقت هنا – إضافة إلى التسويق الاحترافي الذي رافقها. ومع ذلك، لم تتكرر هذه الظاهرة؛ ربما لأن عنصر المفاجأة فقد بريقه، وربما أيضاً لغياب آليات مؤسسية قادرة على تسويق الأعمال السعودية بالزخم نفسه.
أذكر البروفيسورة والمترجمة مارلين بوث، التي نقلت الرواية إلى الإنجليزية، ثم نشرت لاحقاً مقالة أكاديمية انتقدت فيها تدخل الكاتبة الصانع والناشر في الترجمة، حيث جرى تعديل النص لاحقاً بهدف جعله أكثر ملاءمة للقارئ الغربي. رأت بوث أن هذا التدخل بالغ في “تغريب” النص، فتم تبسيط خصوصياته الثقافية واللغوية وتليين بعض القضايا الحساسة ليبدو أكثر سلاسة وقبولاً، وهو ما اعتبرته انتقاصاً من الأمانة الترجميّة وفقداناً لجزء من روح النص الأصلي. هذا الجدل يفتح باب النقاش حول حدود الترجمة: هل وظيفتها تيسير القراءة للآخر أم الحفاظ على هوية النص بما فيها من اختلافات وصعوبات إذا كان الهدف هو الوصول للقارئ؟
ومن المهم أيضاً التوقف عند نموذج رواية الحزام (2001) لأحمد أبودهمان، التي حظيت منذ صدورها الأول بالفرنسية بشهرة واسعة، إذ تعدّ أول رواية سعودية يكتبها مؤلف سعودي باللغة الفرنسية، وقد عبّر أبودهمان في العديد من حواراته عن رؤيته لاختيار الفرنسية لغةً للكتابة، مؤكداً أنه تعمّد استخدام لغة بسيطة، وهو ما أضفى على النص فرادته، وجعل أسلوب السرد منسجماً مع طبيعة الحكاية وصوت الراوي الطفل.
اللافت أنّ أبودهمان نفسه تولّى ترجمة الرواية إلى العربية، حيث تحدّث مطولاً عن تجربته في الانتقال بين الفرنسية والعربية، وعن تراكمات كل من اللغتين على الصعيدين التاريخي والعاطفي، بما يفتح أفقاً للتفكير في أثر الازدواج اللغوي على تشكّل الذاكرة الأدبية والسردية.
ويلفتني النموذج الكوري في رواية النباتية (The Vegetarian) للكاتبة هان كانغ، التي نُشرت لأول مرة بالكورية عام 2007، ثم تُرجمت إلى الإنجليزية على يد المترجمة ديبورا سميث عام 2015. وهذه الترجمة هي التي منحت الرواية شهرة عالمية واسعة، وحصلت بفضلها على جائزة مان بوكر الدولية 2016، حيث اقتسمت هان كانغ الجائزة مع مترجمتها، في إشارة واضحة إلى أن الترجمة ليست وسيطاً محايداً بل شريك في صناعة العمل الأدبي.
فالكاتبة هان كانغ لم تصل إلى جائزة نوبل عام 2024 من فراغ، بل من خلال تراكم طويل من الدعم المؤسسي. أنشأت الحكومة الكورية مبكراً مؤسسات مثل معهد ترجمة الأدب الكوري (LTI Korea)، الذي يموّل ترجمة الأعمال إلى لغات متعددة، ويمنح الناشرين الأجانب دعماً مالياً لطباعة ونشر هذه الترجمات، إضافة إلى تدريب مترجمين ورعاية فعاليات أدبية دولية. وبعد فوز كانغ بالنوبل، أعلنت وزارة الثقافة الكورية عن زيادة ميزانيات الترجمة إلى عشرات المليارات من الوون الكوري، باعتبار الأدب جزءاً من إستراتيجية القوة الناعمة التي توازي الموسيقى الكورية (K-pop) والسينما والدراما.
من يقرأ المشهد السعودي اليوم يجد تنوعاً لافتاً: من الرواية التاريخية إلى السرد النسوي الجريء، ومن شعر التجريب إلى أدب الرحلة، وحتى تجارب في الخيال العلمي. هناك جرأة أوضح في مقاربة قضايا الهوية، المرأة، الفرد، والتحولات الاجتماعية. ومع إطلاق رؤية السعودية 2030، تزايد الاهتمام الرسمي بالأدب باعتباره جزءاً من القوة الناعمة للمملكة. فقد أطلقت وزارة الثقافة برامج لدعم النشر والترجمة، وأسست مكتبات عامة ومهرجانات للكتاب، فيما تعمل هيئة الأدب والنشر والترجمة على فتح جسور مع العالم عبر مبادرات مثل «ترجم» ودعم مشاركة الكُتاب السعوديين في معارض دولية كفرانكفورت والقاهرة. هذه الجهود تُعد نقلة نوعية، لكنها تحتاج إلى تراكم واستمرارية كي تتحول إلى نتائج نلمسها في ساحتنا الثقافية المحلية والدولية.
ولعل دخول الأدب السعودي في سباق الجوائز الدولية بدأ مع مبادرات محلية مثل جائزة القلم الذهبي، التي أُطلقت لدعم الكُتاب الشباب وتحفيز الإنتاج الإبداعي. ورغم أنها جائزة محلية، إلا أنها تعكس وعياً متزايداً بأهمية صناعة أسماء أدبية سعودية واعدة.
في الختام، تبقى العالمية حلماً مشروعاً، لكنها ليست محطة أخيرة بقدر ما هي رحلة تبدأ من النص نفسه: من صدقه، وجرأته، وقدرته على حمل أسئلة المكان إلى فضاء الإنسان. فهل نبحث عن العالمية كغاية نلهث وراءها، أم نتركها تأتي كنتيجة طبيعية لأدب متجذر في هويته، واثق من صوته، ومستعد لأن يُترجم إلى لغة الآخرين دون أن يفقد مذاقه الخاص؟ ويظل دعم المؤسسات الثقافية وكذلك التعليمية عاملاً حاسماً في صناعة العمل الأدبي.
** **
د.روان آل ثنيان - عضو هيئة تدريس في قسم اللغة الإنجليزية وآدابها بكلية اللغات والترجمة