لا شك أن النظام الثقافي للكائن البشري يتغير بصورة مستمرة إزاء أي ابتكار علمي تشترك فاعليته على أرض الواقع ، كونه وأعني الابتكار، يفرض حياة مختلفة تظهر تمثلاتها من حيث التعامل مع النوع الاجتماعي، ولعلي أجد أن الخطاب المعرفي الديالكتيكي والطرح الإشكالي من ضمن العوامل التي تعيد تدوير الأنظمة الثقافية للمجتمعات، فلنقُل إن السياق الثقافي يتأثر حيال أي وافد علمي ينسجم وطبيعة الإنسان أو جدلي ذهني يؤثر على تعديل أو انمحاء بعض من الأجوبة الجاهزة التي تربى عليها وأحاطته بمقدراتها.
ومما لا شك فيه أن هذا التحول في البنية الثقافية أفرز سمات مختلفة على مستوى الهوية البشرية وعلاقتها بالمحيط، فلو تقصينا جانبين معنيين بالبناء الهرمي للإنسان، الأول هو الفكري بوصفة دالة تعريفية في كيفية التعاطي مع عقبات الواقع فضلا عن النزوع نحو أسئلة أكثر إثارة من حيث طبيعة المقترحات والرؤى الجديدة، ولعلي أجد أن ولادة أي سؤال اشكالي بغض النظر عن جوهر السؤال من الناحية المعرفية هو الشروع بتصدير مفاهيم جديدة للواقع، الجانب الآخر هو التأثيرات المجتمعية الناجمة عن التحولات الفكرية للإنسان نفسه وما ينتج عنها من بواعث تؤسس لمراحل جديدة على المستوى النفسي والإنساني، وبودي أن أتوقف كثيرا عند الدور الذي يلعبه العلم بتفرعاته المادية والنظرية على التصرف والسلوك المعني بالفرد بما إننا وصلنا إلى عوالم رقمية تداخلت بجوانب عديدة وأصبح لها القدح المعلى في انتاج خطاب على مستوى الصوت والصورة، لكني أمام أسئلة أكثر مكاشفة، هل أن استبدال النظام الثقافي للمجتمعات يأتي عن طريق العلم وحده؟ وهل المفاضلة ما بين مجتمع وآخر هو تصدير المستحدثات العلمية على اختلاف تنوعاتها الوظيفية والتعامل مع نتائجها على وفق الدقة والمعيار؟ ما هي طبيعة العلاقة بين الإنسان وبين أي ابتكار علمي يقوم بتعيين المهام وتبديد المصاعب؟ وهل يتوقف الإنسان عند منزلة هذا الابتكار ويحدد مرتبته في حال لو أثر على صناعة قراره؟ وهل أسهمت هذه الاختراعات العلمية بتأسيس نظام ثقافي بشري؟
ولعلنا نشير إلى بوادر الثورة الصناعية الأولى التي منحت لنا الآلة البخارية مرورا إلى الثانية ودورها المركزي بظهور الكهرباء ومن ثم الثالثة التي صدرت لنا الحواسيب والانترنيت والأتمتة التي تتفرع على عدة تقانات وظيفية تؤدي غرضا معينا لنصل إلى الرابعة التي عززتها البيئة الرقمية وعلم الصناعات والذكاء الاصطناعي الذي استطاع إدارة الحياة بشيفرة برمجية قابلة للتعديل والإضافة، ولو استقرأنا حقيقة هذه الثورة التي حققت قفزات عالية من حيث التنفيذ والسرعة فضلا عن عامل الدقة لنجد أننا ازاء معادلة تقانية عظيمة بدأت ولا أعتقد انها تنتهي عند حد معين، معادلة ذات فاعلية منتجة ومتسلسلة، لكنْ كيف لنا أن نفهرس مضامين هذه المعادلة العظيمة ونستقرئ مدى تفاعل الكائن البشري معها من الناحية الأخلاقية والقيمية؟ بيد أن السؤال المهم، ما طبيعة هذه المعادلة بعد أن تجلى الذكاء الاصطناعي وبانت فاعليته واضحة في جميع مرافئ الحياة؟ خصوصا قبالة الفعل الذي يقدمه المختبر العلمي والذي ارتبطت ماهيته بحقيقة الإنسان المادية من حيث زراعة القلب الاصطناعي والأطراف الميكانيكية أو الالكترونية العضلية التي تستشعر إشارات العضلات الأخرى فضلا عن أن هناك أطرفا تعمل بأجهزة خارجية.
واقعا، علينا أن نعي مسألة غاية بالأهمية، أن العتبة الأولى للتغيرات الاجتماعية والثقافية هو ظهور الإرسال الإذاعي الراديوي الذي يصل عبر الأثير وما تلاها من تصدير التلفاز واختراع الأقمار الصناعية التي تغذي القنوات عبر طبق البارابول الذي يتلقى البث التلفزيوني المباشر، ولعلي أشير إلى تسليع الحمولة الثقافية للبلدان عبر هذه الوسائل مما ينتج عن ظهور فوارق سوسيولوجية واضحة استطاعت أن تخلق هوية ثقافية جديدة من حيث السلوك والتصرف بل حتى على صعيد اللغة، ولو أجرينا معاينة انثروبولجية على طبيعة الكائن البشري منذ العام 1957 حال إطلاق أول قمر صناعي (سبوتينك) تابع للاتحاد السوفيتي وليس انتهاء بالقمر الأمريكي (تلستار) عام 1962، لوجدنا أن هنالك انعكاسا جليا على طبيعة نظام الإنسان الثقافي من حيث الصورة والرؤية والمفهوم، وفي حال استقرائنا لرؤية الفيلسوف الكندي وصاحب النظرية في وسائل الاتصالات (مارشال ماكلوهان) الذي يرى أن أجهزة الاتصال الالكتروني مثل التلفاز تسيطر على حياة الشعوب، ولو تفحصنا حقيقة السيطرة التي يقصدها ماكلوهان من الناحية الذهنية والسياقية لوجدنا أن ثمة صورا مجمعية جديدة تبزغ عبر هذه العوالم، هذه المراحل العلمية استطاعت أن تخلق منظومة مجتمعية تتسق وطبيعة الحراك المعلوماتي الذي ينتجه المختبر.
لذا من الضروري أن نؤشر على الفترات الزمنية بحمولتها العلمية لنلاحظ التباين المجتمعي الذي تجلت مآثره بابتكارات علمية أذك ت جذوتها على المحيط، وإذا تقدمنا في التطور المصاحب للآلة البرمجية التي اندمجت مع الإنسان في مجالات متعددة، فما طرحه العالمان الامريكيان (مانفريد كلاينز وناثان كلاين) بمصطلح السايبورغ (cyborg) عام 1960 خير دليل على التحام البرمجي بالبشري البايلوجي لإعطاء فاعلية كبيرة للإنسان، مثل القلب الاصطناعي الذي يوضع لفترة مؤقته أو دائمة في حال لو استعصت الحالة على زراعة القلب فضلا عن الأطراف الصناعية التي تعمل بمؤقت أو جهاز تحكم عبر اليد، ومما لا شك فيه أن جميع هذه الصناعات البرمجية أثرت تأثيرا واضحا على علاقة الكائن البشري مع قرينة بل على الوحدة المجتمعية بكليتها.
بطبيعة الحال، ما زال المختبر العلمي مستمرا بالصناعة، لنصل إلى المرحلة الحالية التي استطاعت البيئة الرقمية أن تمسك بفاعلية الكائن البشري في مفاصل عديدة من الحياة، فقد امتلكت الآلة الذكية حيزا كبيرا اشتركت مع مقررات الإنسان وتداخلت في مجالات شتى على المستوى الذهني والعملي، ولو رجعنا إلى حقيقة برامج التواصل الاجتماعي والبرامج الذكية ذات الفاعلية الكبيرة في المحاورة والاقتراح والسؤال، مرورا إلى العجلات ذاتية القيادة التي تسير بعقل آلاتي ذكي ليتعدى ذلك إلى الروبوت الذي يقوم بأعمال بشرية بل يفوق قدراته من ناحية الكفاءة، كل هذه الابتكارات تكوّن سياقا ثقافيا له تبعاته على قيمة الكائن البشري واعتباراته الإنسانية، وهنا من الضروري أن نؤشر على كيفية تشكيل البنية المجتمعية للبلدان والتعاطي مع مستحدثات الحياة بتفاصيلها المعرفية والعلمية والجدلية، وقد ساعدت هذه الجوانب على خلق وحدة عضوية مجتمعية مختلفة، لكني أتوقف كثيرا عند مخرجات البيئة الرقمية في حال لو أصبح الواقع يدار بآليات رياضياتية مجردة غير قابلة للدحض والإشارة، ونحن نعلم أن العوالم التي تصدرها الآلة تكون منزوعة من المشاعر، ولو استطاعت أن تصل إلى هذه المرتبة، كيف ستكون ثقة الكائن البشري بنفسه؟ وما هو تصنيف هويته من الناحية المجتمعية؟ وعلى أي جهة يحسب؟ هل ثمة كائن بشري تقترحه الآلة الذكية؟
لذا أجد أن الأثر العلمي تحديدا له الإمكانية الكبيرة في تدوير سياق المجتمعات وتبديل خصائصه، وقد تفردت بهذا الطرح عوالم البيئة الرقمية التي تكون أكثر تعالقا مع الكائن البشري لما تتمتع به من قابلية عظيمة على التجاوب مع طبيعة العقل المادي بل تقترب من قضاياه الجدلية كونها تحدث اتصالا ذهنيا ذات فاعلية حيوية وهذا ما لمسناه عبر المحاكاة التي تتركها البرامج المرتبطة آلية عملها بخوارزميات الذكاء الاصطناعي والتي لها القابلية على خلق متن حواري استقرائي يعنى بحقيقة الإنسان بل ويتفاعل مع مقترحاته مما يبان تأثيره واضحا على النظام الاجتماعي والبشري للفرد وبمقدوره أن يحجز له مقعدا واسعا في هذا العالم المادي.
** **
- ميثم الخزرجي