كان الإمام في نجد قديمًا يتفقد المصلين بعينيه، يلتفت فلا يجد وجهًا اعتاده، فيسأل عنه. لم يكن ذلك ترفًا ولا فضولًا، بل شعورًا بالمسؤولية: الغياب قد يكون مرضًا يحتاج إلى دعاء، أو سفرًا يحتاج إلى ذكر، أو همًّا يثقل صاحبه فيستحق أن يُذكر بين الناس. كانت تلك العادة البسيطة نوعًا من التضامن الإنساني، حيث حضورك وغيابك كلاهما يُرى ويُسجَّل.
وحين يكتب الغذامي عن غياب بعض متابعيه، فإنه لا يفعل ما يفعله القادة حين يعدّون أنصارهم، ولا ما يفعله المؤثرون حين يفتقدون الإعجابات. إنه يفعل فعل الإمام ذاته، يتفقد الغائب، يتساءل عنه بحزن صادق، ويترك مسافة من الاحترام لسرّه الذي لم يشأ أن يبوح به. إن غيابه لا يخصه وحده، بل يترك عتمةً في فضاء العلاقات، كما لو انطفأ مصباح في بيت اعتدت أن تدخله مضاءً.
هذه العلاقة الغريبة بين متابع وحكيم، بين طالب ومعلم، تُشبه جامعة غير معلنة. لا جدران لها، ولا فصول، ولا أرقام للطلاب، ولا شهادات في نهايتها. ومع ذلك، تشعر أنك تدرس فيها شيئًا يتجاوز المقررات كلها: تدرس كيف يمكن لكلمة واحدة أن تهزّ فيك المعنى، وكيف يمكن لصمت متابع واحد أن يترك في قلب الأستاذ غصة.
أنا واحد من أولئك الذين انتسبوا إلى هذه الجامعة من غير استئذان. لم أملأ استمارة، ولم أطرق بابًا، كل ما فعلته أنني ضغطت على جرس التنبيه لأتأكد أنني لن أفوّت تغريدة، ربما يبدو ذلك بسيطا، لكنه كان أشبه ما يكون بجلسة يومية في محاضرة لا تشبه سواها، محاضرة يقدّمها رجل لا يبحث عن جمهور يصفّق له، بل عن معنى يستقر في الروح.
الغذامي لا يجري سحبًا على جوائز، ولا يبيع الوهم بعلب لامعة، هو يكتفي أن يضع معنى بسيطًا على الطاولة، كخبز يومي، ثم ينظر في عيون من حوله ليرى: هل شبعوا؟ هل أخذوا ما يكفي ليواصلوا يومهم؟ وربما هنا يكمن الفرق بينه وبين بقية من يسمّون أنفسهم “المؤثرين”.
لكن المعنى، مهما كان نقيًا، لا يملك أن يحمي نفسه من الغياب. الغياب هو الخلل الوحيد في هذه الجامعة. حين يتوقف طالب عن الحضور، أو يتوارى في صمت، يخلف وراءه ظلًا ثقيلًا، كما لو أن مقعدًا فارغًا ظلّ يذكّر الجميع بأن صاحبه لم يعد بينهم. تلك هي العتمة التي تحدّث عنها الغذامي، العتمة التي لا يملؤها حضور العشرات.
والحق أن هذه العتمة ليست جديدة. كانت معروفة في المساجد قديمًا، معروفة في المجالس حين يغيب أحد وجهائها، معروفة في الصفوف الدراسية حين يفقد المعلم عيني تلميذ تعود عليهما. لكن الغريب أننا بتنا نعيشها في الفضاء الرقمي، حيث الوجوه لا تُرى، والأسماء قد تكون وهمية، ومع ذلك فإن غيابها يترك فجوة حقيقية في الروح.
في النهاية، ما يصنع الجامعة ليس مبناها ولا لوائحها، بل شعور الانتماء. وما يصنع الانتماء ليس حضورنا فقط، بل تفقد الغائب حين يختفي. لهذا فإن “جامعة الغذامي” ستبقى قائمة ما بقي هناك معنى، وما بقي هناك حكيم يكتب متسائلًا: لماذا غبتم؟ وما بقي هناك طلاب يشعرون أن غيابهم يورث عتمة لا يستهان بها.
** **
- علاء الدين عجعوج