الثقافية - علي بن سعد القحطاني:
منذ ما يقارب خمسة عقود، انطلقت جائزة الملك فيصل لتكون في مصاف الجوائز العالمية لتكريم العلم والعلماء ومرجعًا معرفيًا رصينًا يرسّخ قيم البحث والإبداع. وقد التزمت الجائزة منذ تأسيسها عام 1397هـ/1977 م بالصرامة العلمية والشفافية في الترشيح والتحكيم، حتى باتت مقصدًا للمؤسسات الأكاديمية والمراكز البحثية المرموقة في مختلف أنحاء العالم. وعلى مدى مسيرتها الحافلة، كرّمت أكثر من ثلاثمائة شخصية ومؤسسة من خمس وأربعين دولة، وأسهمت في تعزيز صورة المملكة العربية السعودية كمنارة للعلم والثقافة، وفي الوقت ذاته منحت الباحث العربي والسعودي مساحة تقدير عالمية مستحقة.
ويتزامن هذا اللقاء مع بداية شهر سبتمبر، وهو الموعد الذي تُعلن فيه موضوعات الجائزة وتُفتح أبواب الترشيحات حتى نهاية مارس من العام التالي، في محطة سنوية ينتظرها المجتمع العلمي لما تمثله من فرصة ثمينة لتقديم الإنجازات التي أحدثت أثرًا ممتدًا في خدمة الإنسانية.
في هذا اللقاء، يتحدّث الدكتور عبدالعزيز بن محمد السبيل، رئيس مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني، والأمين العام لهيئة جائزة الملك فيصل العالمية لـ»الثقافية» عن آليات الترشيح والتحكيم، والفلسفة التي قامت عليها الجائزة، ودورها العلمي والثقافي، إضافة إلى رؤيتها المستقبلية وهي تقترب من إتمام نصف قرن من العطاء.
آلية التقديم
د.عبدالعزيز، هل يمكن أن تحدثنا عن آلية التقديم لجائزة الملك فيصل؟ متى يبدأ الإعلان عن الموضوعات واستقبال الترشيحات، وهل صحيح أن الإعلان يتم في سبتمبر من كل عام، بينما يُغلق باب الترشيحات في نهاية مارس؟
نعم، الإعلان عن موضوعات جائزة الملك فيصل يتم في الأول من شهر سبتمبر من كل عام، ويستمر استقبال الترشيحات حتى نهاية شهر مارس من العام الذي يليه، وتُستقبل الترشيحات من الجامعات والهيئات العلمية والمراكز البحثية من مختلف أنحاء العالم، ولا تُقبل الترشيحات الفردية أو ترشيحات الأحزاب السياسية. ويتم الترشيح عبر المنصة الإلكترونية المخصصة لذلك في موقع الجائزة الإلكتروني.
اختيار الفائزين
كيف تتعامل لجنة الاختيار مع عملية تحديد الفائزين؟ وما المدة الزمنية المخصصة لذلك؟ وماذا عن الأعوام التي حُجبت فيها الجائزة – كما حدث في بعض دورات الأدب العربي – ألا تجدون أنفسكم في موقف حرج أمام الرأي العام حينها؟
لجنة الاختيار هي اللجنة الأخيرة في سلسلة لجان التحكيم، وتتعامل مع عملية تحديد الفائزين بمنتهى الدقة والموضوعية، حيث تستند في قراراتها إلى تقارير اللجان العلمية والمحكّمين الدوليين الذين يقيّمون الأعمال وفق معايير رفيعة، حيث تقوم هذه اللجنة بدراسة تقارير المحكمين ومراجعة أعمال المرشحين، واتخاذ القرار المناسب، وفق المعايير التي تحددها اللجان المختصة.
أما من حيث المدة الزمنية، فإن عمل اللجان يبدأ مباشرة بعد انتهاء فترة استقبال الترشيحات في نهاية مارس، ويمتد عبر مراحل متعددة من المراجعة والتقييم وصولاً إلى اجتماعات لجنة الاختيار التي تُعقد عادة في الأسبوع الأول من شهر يناير في كل عام لتتخذ القرار النهائي.
وفيما يخص الأعوام التي حُجبت فيها الجائزة، فنحن نؤكد أن الحجب ليس موقفًا محرجًا، بل هو دليل على صرامة اللجان العلمية، وحرصها على أ ن تُمنح فقط لمن يستحقها بجدارة، حين تتوافر في الأعمال المرشحة المعايير والشروط التي تضمن الحفاظ على مكانة الجائزة وسمعتها العالمية. ويحدث الحجب عندما ترى اللجان أن الأعمال المرشحة لا ترتقي إلى مستوى معايير الجائزة.
فلسفة الجائزة
مضى على انطلاقة الجائزة ما يقارب خمسة عقود، ومع تزاحم الجوائز العالمية ظلت تحافظ على بريقها وقيمتها. ما الفلسفة التي قامت عليها الجائزة منذ عام 1979؟ وكيف نجحت في أن تبقى وفيّة لرسالتها الأولى في تكريم العلم والعقول، بعيدًا عن المجاملة أو الضجيج الإعلامي؟
منذ انطلاقتها عام 1977، ارتكزت رسالة الجائزة على نهج ثابت وهو تكريم العلم والعلماء، والإعلاء من شأن الإنجاز الفكري والبحثي الأصيل الذي يحقق فائدة حقيقية للإنسانية. كما وضعت الجائزة نصب عينيها منذ البداية أن تكون بعيدة عن الاعتبارات غير العلمية، لذلك اعتمدت آلية دقيقة في الترشيح والتحكيم كما ذكرت سابقاً، فالالتزام الصارم بمعاييرها العلمية والأكاديمية، وحرصها على أن تُمنح لمن يستحقها عن جدارة، إضافةً إلى شفافيتها واستقلالية لجانها في التقييم والاختيار. ويمكنني الإشارة هنا إلى أنه قد تم منح الجائزة لأكثر من ثلاثمائة من المؤسسات والعلماء والباحثين المتميزين من خمس وأربعين دولة. وقد أصبحت الجائزة مرجعًا عالميًا ينظر إليها بكل تقدير، يتمثل هذا التقدير في حرص المراكز البحثية العلمية والجامعات المرموقة في أمريكا وأوروبا والصين واليابان وبقية دول العالم على ترشيح منسوبيها من العلماء والباحثين، أملًا في الفوز بالجائزة الذي يعد إضافة علمية وتقديرية لمن يفوز بها.
استقلال اللجان والحيادية
من القضايا الجوهرية التي تثار حول الجوائز العلمية عالميًا قضية الشفافية، كيف تضمن جائزة الملك فيصل استقلال لجان التحكيم، وإبعادها عن أي ضغوط أو اعتبارات سياسية أو شخصية؟
الدقة والشفافية ركن أساسي في جائزة الملك فيصل، ولهذا اعتمدت منذ انطلاقتها آليات دقيقة تكفل استقلالية لجان الخبراء، والتحكيم، والاختيار كما جاءت الإشارة سلفاً، فالترشيحات لا تُقبل من الأفراد ولا من الأحزاب السياسية، بل تُستقبل فقط من الجامعات والهيئات العلمية والمراكز البحثية المعروفة عربيًا وعالميًا. كما أن لجان التحكيم تتكوّن من نخبة من العلماء والأكاديميين البارزين من مختلف الدول، وتعمل بشكل مستقل تمامًا، بعيدًا عن أي ضغوط أو اعتبارات شخصية أو سياسية. تقارير ودراسات هذه اللجان ترفع إلى لجنة الاختيار، وهي لجنة مكوّنة أساسًا من أساتذة جامعات وشخصيات علمية من دول مختلفة.
تجدر الإشارة المهمة هنا أن جميع لجان الجائزة سرية، وفي الوقت نفسه متجددة بشكل سنوي، فأعضاء جميع اللجان لا يتكررون، وعدم ثبات اللجان يجعلها أكثر بعدًا عن أي تأثيرات خارجية.
تكريم العلماء السعوديين
الجائزة كرّمت علماء ومفكرين من مختلف أنحاء العالم، لكن ماذا عن حضور العلماء العرب والسعوديين؟ هل نجحت الجائزة في إعادة الاعتبار للباحث العربي في المشهد العالمي؟ وكيف توازنون بين بعدها العالمي وبين دورها في تعزيز مكانة المملكة ومجتمعها العلمي داخليًا؟
جائزة الملك فيصل منذ انطلاقتها وهي جائزة للعلم والإنسانية، تُمنح بعيدًا عن أي اعتبارات جغرافية، أو سياسية، أو دينية، أو مذهبية، أو عرقية؛ ولهذا كرّمت العلماء والمفكرين من مختلف القارات. كما نال جائزة الملك فيصل أيضًا عدد من السعوديين والعرب في مختلف المواضيع، وقد كان من بين هؤلاء المكرمين من واصل مسيرته العلمية ونال جوائز دولية مرموقة أخرى بعد حصوله على جائزة الملك فيصل، مما يؤكد مكانتها في اكتشاف العقول المبدعة وتقديرها.
الدبلوماسية الثقافية
كثيرون يرون أن جائزة الملك فيصل لم تعد مجرد جائزة علمية، بل تحولت إلى أداة دبلوماسية ثقافية تُبرز وجه المملكة الحضاري. إلى أي مدى أسهمت الجائزة في تعزيز صورة المملكة عالميًا؟ وهل لديكم شواهد ملموسة على شراكات علمية أو استثمارات كبرى نشأت بعد فوز بعض العلماء وحضورهم إلى الرياض؟
أتفق معكم أن الجائزة تُعد أداة فاعلة لتعزيز حضور المملكة داعمًا للفكر والبحث العلمي والإنساني، فهي لا تكتفي بالتكريم، بل تنظم محاضرات علمية وندوات ثقافية داخل المملكة وخارجها يشارك فيها الفائزون، كما تُنظم زيارات لهم إلى الجامعات والمراكز البحثية في المملكة، ما يسهم في تبادل الخبرات وإنشاء شراكات معرفية طويلة الأمد، وتعمل على عدد من المشاريع ذات الصلة بالعلم والعلماء من ترجمة الكتب وإصدار المجلات العلمية، والإسهام مع الجهات العلمية في تنظيم مؤتمرات وندوات ولقاءات أكاديمية.
وقد نتج عن هذا الحراك العلمي عدد من الإنجازات، مثل توقيع اتفاقيات تعاون مع جهات محلية وعالمية، فعلى سبيل المثال أنجزت الجائزة مع معهد العالم العربي في باريس مشروع «مائة كتاب وكتاب»، وهو مشروع يهدف إلى تكريم العلماء العرب والفرنسيين بالتعريف بهم، وتأليف كتاب عن كل واحد منهم، نظراً لجهودهم الكبيرة في تقديم كل من الثقافتين العربية والفرنسية للأخرى، ولدينا اتفاقية مع المركز الإسلامي في أكسفورد لتقديم سلسلة محاضرات دورية للفائزين في جامعة أكسفورد.
ومؤخرًا، وبالتعاون مع إدارة قصور الحمراء في غرناطة بمملكة إسبانيا، قامت الجائزة بتدشين كتاب «رياض الشعراء في قصور الحمراء» بحضور دبلوماسي وثقافي متميز، وقبل ذلك تم في الرياض تدشين كتاب «الحملات الصليبية: منظور إسلامي»، الذي قامت الجائزة بترجمته ونشره.
كثير من الفائزين يحظون بالتقدير العالمي بعد فوزهم بجائزة الملك فيصل حيث تسند لهم مناصب علمية مهمة.
ومن جانب آخر عدد من الفائزين أصبحوا على صلة بالمراكز العلمية، والبحثية، والجامعات السعودية، وهذا يُسهم في دعم الحراك العلمي في المملكة.
الترشيحات بين المتنافسين
عندما تتنافس أبحاث واكتشافات كبرى، كيف تفصل اللجان بين المرشحين؟ هل يُحتكم إلى عمق البحث فقط، أم إلى حجم تأثيره على البشرية واتساع أثره العملي؟ وهل يمكن القول إن معيار «الأثر الممتد» هو جوهر ما يميز الجائزة عن غيرها؟
آلية التحكيم في جائزة الملك فيصل لا تقوم على معيار واحد فقط، بل على مجموعة من المعايير المترابطة، فاللجان العلمية تنظر أولًا في أصالة البحث ودقته العلمية وعمقه المنهجي، ثم تقيّم أثره العملي، ومدى إسهامه في خدمة الإنسانية وتوسيع آفاق المعرفة. نحن نؤمن أن البحث مهما بلغ من العمق لا يكتمل إلا إذا كان قادرًا على إحداث تغيير ملموس، أو فتح آفاق جديدة أمام البشرية.
ومن هنا، يمكن القول كما أشرتم أن معيار «الأثر الممتد» هو بالفعل من السمات البارزة التي تميز الجائزة؛ فهي لا تُمنح إلا للدراسات أو الاكتشافات التي تجمع بين الجودة العلمية الرفيعة والقيمة الإنسانية الحقيقية، ليمتد أثر إنجازاتهم من نطاق البحث الأكاديمي إلى واقع ملموس يسهم في تحسين حياة الإنسان.
الذكاء الصناعي والثورات المعرفية المتسارعة
يشهد العالم ثورة معرفية متسارعة في مجالات مثل الذكاء الاصطناعي، وعلوم الجينوم، والبيانات الضخمة. هل هناك نية لتوسيع فروع الجائزة أو تحديث معاييرها لتواكب هذه التحولات؟ وكيف ترون مستقبلها خلال العقود القادمة مع اقترابها من إتمام نصف قرن؟
جائزة الملك فيصل وُجدت لتكون في صميم التطور العلمي والمعرفي، ولذلك فهي تتابع عن كثب التحولات الكبرى التي يشهدها العالم في مجالات مثل الذكاء الاصطناعي، وعلوم الجينوم، والبيانات الضخمة، وغيرها كما ذكرتم في السؤال. ومع أن أفرع الجائزة الخمسة ثابتة، إلا أن موضوعاتها تتجدد سنويًا لتواكب هذه المستجدات، بحيث تظل قادرة على تقدير الأبحاث الرائدة التي تعكس مستجدات العصر وتلبي احتياجات البشرية.
أما عن المستقبل، فالجائزة نعم، كما قلتم، مقبلة على إتمام نصف قرن من تاريخها، فهي لا تقتصر على تكريم العلماء فحسب، بل تسهم أيضًا في بناء شبكة واسعة من العلاقات الأكاديمية والثقافية، وترسيخ صورة المملكة كحاضنة للمعرفة والإبداع. إن ما يميز الجائزة هو ثبات رسالتها في تكريم العلم وأهله، مقرونًا بقدرتها على التجدّد المستمر، وهذا ما سيضمن لها مكانتها العالمية لعقود قادمة بإذن الله.
الأجيال الجديدة والتحفيز
كيف يمكن لجائزة الملك فيصل أن تصل إلى الجيل الجديد من الطلاب والباحثين داخل المملكة وخارجها؟ وما دور المناهج التعليمية، والبرامج المرافقة، وحضور الفائزين في الجامعات والمدارس، في جعل الجائزة مصدر إلهام وتحفيز لهم ليؤمنوا بأن المنجز العلمي يمكن أن يصنع مستقبلهم ومكانتهم؟
تسعى الجائزة في جوهر رسالتها لأن تكون مصدر إلهام للأجيال الجديدة، ولذلك فهي لا تقتصر على تكريم العلماء فحسب، بل تعمل على نقل تجربتهم وخبراتهم إلى طلابنا وباحثينا؛ ليكونوا قدوة حيّة تلهمهم على مواصلة طريق البحث والابتكار، نحن ندرك أن ربط الشباب بنماذج حقيقية من العلماء المبدعين هو أعمق وسيلة لغرس الإيمان بأن المنجز العلمي يمكن أن يفتح لهم آفاق المستقبل ويمنحهم المكانة المستحقة، والجائزة تنظم لقاءات للفائزين مع الطلبة المتفوقين والموهوبين علميًا، بالتنسيق مع الزملاء في مؤسسة موهبة وواحة الملك سلمان للعلوم، كما أن الجائزة حاضرة في مناهج التعليم في المرحلة الثانوية، من خلال التعريف بمنجزات الفائزين العلمية القيّمة، أملًا أن يكون ذلك محفزًا للجيل الصاعد.
موضوعات جوائز الملك فيصل للعام 2027
يستمر الترشيح حتى نهاية مارس 2026• جائزة الدراسات الإسلامية: «الدراسات الفقهية التطبيقية المعاصرة»
• جائزة اللغة العربية والأدب: «جهود المؤسسات في المعالجة الآلية للغة العربية»
• جائزة الطب: «الذكاء الاصطناعي في الطب السريري»
• جائزة العلوم: «الكيمياء»
** **
@ali_s_alq